قواعد موسكو
تأليف: أنطونيو ج. منديز* وجونا منديز**
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
لعب العميلان الشهيران أنطونيو وجونا منديز دوراً مهماً في تطوير سلسلة من التكتيكات، التي سمحت لضباط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالتفوق على جهاز الاستخبارات السوفييتي، وقلبت الاحتمالات لمصلحة أمريكا في أخطر لحظات الحرب الباردة. في هذا الكتاب نقرأ المبادئ التوجيهية للجواسيس الأمريكيين، وكيفية صعوبة اختراق أجهزة الاستخبارات السوفييتية، وامتداد الحرب الاستخباراتية إلى وقتنا الراهن بين الجانبين.
كان عمل المخابرات الأجنبية غير ممكن بشكل كبير في زمن الاتحاد السوفييتي؛ إذ احتفظ السوفييت بملفات عن جميع الأجانب، ودرسوا أنماط شخصياتهم، وراقبوا هواتفهم. كان أنطونيو منديز وزوجته المستقبلية جونا من عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، الذين يعملون للتجسس على موسكو في أواخر سبعينات القرن الماضي.
أصبح أنطونيو واحداً من أكثر عملاء وكالة المخابرات المركزية احترافية؛ بعد 25 عاماً من عام 1965 إلى عام 1990 من العمل الاستخباراتي. وأصبحت جونا لاحقاً رئيسة قسم التنكّر في مقر وكالة المخابرات المركزية؛ وذلك في متجر يشبه أحد المختبرات الموجودة في أفلام جيمس بوند. لم يخترع أنطونيو وزوجته «قواعد موسكو»؛ لكنهما ساعدا في صقلها.
يشير المؤلفان في المقدمة إلى أنه «طوال الحرب الباردة، من عام 1955 إلى عام 1988» تقريباً، حدثت مواجهات بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ووكالة الاستخبارات السوفييتية في كل قارة تقريباً. لم تكن هذه المعركة أكثر حدة مما كانت عليه في شوارع موسكو. خلال الحرب الباردة، تم تصنيف موسكو على أنها «منطقة محرمة». وفقاً لموسوعة توماس ألين ونورمان بولمار، المنطقة المحرمة تعني «بلد يتمتع بأمن داخلي صارم؛ بحيث لا يجرؤ عملاء المخابرات الأجنبية على الاتصال بالمخبرين شخصياً». إنه وصف مناسب. كانت العاصمة السوفييتية تعج بمراقبة ال«كي جي بي».
ويضيفان: في النهاية، أجبرت الظروف القاسية في موسكو، إضافة إلى الطبيعة المزعجة للمجتمع نفسه، وكالة المخابرات المركزية على صقل تكتيكاتها، وتطوير وجهة نظر جديدة؛ من أجل محاربة المديرية السابعة لجهاز المخابرات السوفييتي، والتي كانت مسؤولة عن المراقبة. سيُعرف هذا النهج الجديد – بما في ذلك ليس فقط مجموعة جديدة من التقنيات؛ لكن أيضاً مجموعة من التقنيات الجديدة، وطرق التنكر، إضافة إلى تعيين نوع جديد من مسؤولي الحالات – باسم «قواعد موسكو»؛ وهي ثورة في العمليات السرية لسنوات قادمة على صعيد المخابرات الأمريكية.
يقع الكتاب في (272) صفحة من القطع المتوسط، وهو صادر في مايو/أيار 2019 عن دار «بابليك أفيرز» باللغة الإنجليزية.
تجنيد بينكوفسكي
يشير الكاتبان إلى أنه قد كان أحد العقول الأكثر قيمة بالنسبة للولايات المتحدة والمملكة المتحدة في موسكو؛ هو العقيد أوليغ بينكوفسكي؛ إذ قدم بينكوفسكي معلومات مفصلة عن الصواريخ السوفيتية التي إلى جانب صور الأقمار الصناعية، عززت ثقة جون كينيدي بأن خوروتشوف كان يبالغ في قوة صواريخه النووية. سمحت هذه المعرفة للرئيس الأمريكي باتخاذ موقف أكثر حزماً بشأن كوبا في عام 1962.
يقول المؤلفان في الفصل الأول: «في صباح يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1962، ردّت زوجة هيو مونتغمري، نائب رئيس وكالة المخابرات المركزية في موسكو، على مكالمة هاتفية. على الطرف الآخر، بقي المتصل صامتاً لمدة عشر ثوانٍ، وأغلق الخط. عندما أخبرته زوجة مونتغمري بما حدث، أدرك على الفور الآثار المترتبة عليه، وبدأ في اتخاذ الترتيبات اللازمة. كانت المكالمة الصامتة تعد جزءاً من إشارة تم ترتيبها مسبقاً من جاسوس سوفييتي يُدعى أوليغ بينكوفسكي. كان بينكوفسكي مفقوداً لعدة أشهر، وكانت وكالة الاستخبارات المركزية تخشى الأسوأ. الآن، عاد الجاسوس إلى الواجهة؛ ليقول إن السوفييت كانوا على وشك بدء الحرب العالمية الثالثة».
كان بينكوفسكي، عقيداً في المخابرات العسكرية السوفييتية. كما شغل منصباً كبيراً في اللجنة الحكومية لتنسيق أعمال البحث العلمي، وهي هيئة حكومية تشرف على عمليات التبادل التكنولوجي مع الغرب.
المنصبان زوداه بإمكانية وصول كبيرة إلى القدرات العسكرية والتكنولوجية السوفييتية. بالنسبة للأمريكيين، كان بينكوفسكي جاسوساً مخلصاً ومحفزاً، وكان أحد أهم أصول وكالة المخابرات المركزية في حقبة الحرب الباردة الأولى. كان يكره ال«كي جي بي»، ويشعر بخيبة أمل من النظام السوفييتي، الذي تجاهله مراراً في الترقية.
يضيفان: «حاول بينكوفسكي أولاً الاتصال بوكالة المخابرات المركزية في شتاء عام 1960؛ من خلال تسليم خطاب إلى اثنين من السياح الأمريكيين في الساحة الحمراء. بعد محاولات مماثلة، وصلت الرسالة إلى أيدي وكالة المخابرات المركزية، التي أصبحت مشبوهة على الفور. كانت الرسالة غامضة للغاية. ذكر فيها بينكوفسكي أن لديه معلومات مهمة بشأن مواضيع عديدة من المؤكد أنها ستكون موضع اهتمام الحكومة الأمريكية. ومع ذلك، فقد رفض الكشف عن هويته. سلم بينكوفسكي أخيراً خطاباً آخر إلى رجل أعمال بريطاني، قام بعد ذلك بمشاركته مع المخابرات البريطانية. في هذه الرسالة، تضمن بينكوفسكي تفاصيل كافية للسماح بتأكيد هويته، وقرر البريطانيون والأمريكيون العمل معاً».
أزمة الصواريخ الكوبية
«عُقد أول لقاء وجهاً لوجه مع الجاسوس الروسي في غرفة بالفندق في لندن؛ حيث سلّم بينكوفسكي ظرفاً محشواً بوثائق سرية؛ تضمنت مخططات لصواريخ وقاذفات سوفييتية. في زيارتين متتاليتين إلى لندن، وأخرى إلى باريس، قام بتسليم أكثر من مئة لفافة من الأفلام المكشوفة، إضافة إلى ما يقرب من مئة صفحة من الملاحظات والرسوم البيانية المكتوبة بخط اليد. إجمالاً، زوّد وكالة المخابرات المركزية بمعلومات سرية كثيرة لدرجة أنه تم توظيف 30 مترجماً ومحللاً؛ للعمل على المواد بدوام كامل». بحسب الكتاب.
جعلت واشنطن معلومات بينكوفسكي من أولوياتها. تطرقت معلوماته إلى مجموعة متنوعة من الموضوعات الحساسة، بما في ذلك النوايا السوفييتية خلال حصار برلين، وكذلك القدرات التقنية للصواريخ النووية التي أرسلها الروس إلى كوبا في خريف عام 1962.
يعلق الكاتبان: «في الواقع، يمكن القول إن معلومات بينكوفسكي لعبت دوراً رئيساً في مساعدة الرئيس كينيدي في مواجهة رئيس الوزراء السوفييتي نيكيتا خوروتشوف خلال أزمة الصواريخ الكوبية. لم يكن الرئيس الأمريكي يعرف فقط نوع الصاروخ الذي وضعه الروس في كوبا؛ بل كان يعرف أيضاً أن خوروتشوف كان يبالغ في تقدير قدرة الترسانة النووية السوفييتية».
شكّل القبض على أوليغ بينكوفسكي وقتله لحظة حاسمة في تاريخ وكالة المخابرات المركزية، وكذلك في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ لكن ما قام به بينكوفسكي كان له قيمة كبيرة، فقد اخترق النظام الأمني لأكثر حكومة مصابة بجنون العظمة في العالم، وتركها فعلياً ممزقة، بحسب الكاتبين.
في تلك المرحلة، كان أعلى ضابط سوفييتي يتجسس لمصلحة الولايات المتحدة، وفي أعقاب اعتقاله، تم استدعاء حوالي 300 من ضباط المخابرات السوفييت على الفور إلى موسكو من الخارج. كان هدف بينكوفسكي المعلن؛ هو منع نشوب حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وفي ذلك نجح. أما المعلومات الفنية التي قدمها عن الصواريخ السوفييتية التي تم نشرها في كوبا عام 1962 سمحت للولايات المتحدة ليس فقط بتتبع الصواريخ، ولكن أيضاً بقياس استعدادها التشغيلي. ونتيجة لذلك، في وقت لقائه مع خروتشوف، عرف كينيدي أن السوفييت يحتاجون إلى عدة أيام؛ لتشغيل الصواريخ، وهو الوقت الذي سمح له بتحقيق حل دبلوماسي.
عمليات وأخطاء
في أعقاب وفاة بينكوفسكي، أُجبرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على تقييم ما حدث من أخطاء. على الرغم من أن الوكالة حققت نجاحات عديدة في تجنيد الوكلاء والجواسيس في جميع أنحاء العالم، فإن العاصمة السوفييتية كانت قصة مختلفة. في وصفه لصعوبات العمل في موسكو، قال مدير وكالة المخابرات المركزية السابق ريتشارد هيلمز: إنه من المحتمل أن يكون من الأسهل تجنيد عميل على كوكب المريخ.
خلال الحرب الباردة، كان المسؤولون الأمريكيون مقيدين بشكل روتيني في قدرتهم على السفر خارج المدينة؛ لكن قواعد مماثلة كانت تنطبق على السوفييت في أمريكا. في الواقع، في واشنطن العاصمة، لسنوات عديدة، كان جزءاً من واجبات ضابط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الإبلاغ عن وجود سيارة تحمل لوحات دبلوماسية سوفييتية في أي مكان في المنطقة الحضرية. تم نقل جميع تقارير وكالة المخابرات المركزية عن مشاهدات السوفييت إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي؛ الوكالة المسؤولة عن تتبع الروس في الولايات المتحدة، سواء في واشنطن العاصمة أو في قنصلياتهم في سان فرانسيسكو أو نيويورك. كانت البصمة الروسية واسعة، وتمتد من واشنطن العاصمة إلى نيويورك إلى سان فرانسيسكو إلى سياتل وهيوستن.
كما يشير الكتاب إلى أن المعلومات التي قدمتها واحدة من أولى عميلات وكالة المخبرات المركزية في موسكو من قبل سوفييتي آخر – أطلق عليها رمز «تريغون» في منتصف سبعينات القرن الماضي، قبل تعرضها للخطر (من قبل عميل تشيكي مزدوج) وانتحاره – «غيرت وجه الحرب الباردة». كان الرئيس كارتر ومساعده الأمني، زبيغنيو بريجنسكي، من المعجبين بشكل كبير بهذه المعلومات، بحسب المؤلفين.
وقدم مخبر آخر، يُدعى أدولف ج. تلكاتشيف، (أطلق عليه رمز «سكسفير») معلومات تقنية عن ابتكارات معهد الرادارات والطائرات السوفييتية المقاتلة، مما وفر مبالغ ضخمة على البنتاجون بمعرفة المعدات السوفييتية الجديدة قبل انتشارها. طلب تلكاتشيف أقراص الانتحار في حال تم القبض عليه، ولكن كانت الأقراص في مكان آخر عندما تم اعتقاله، وبالتالي تم إعدامه، وترك زوجته وأطفاله وراءه.
يشير أنطونيو أيضاً بشكل عابر إلى أن مكتب ال«سي آي أيه» الذي كان يتبعه خطط أيضاً للاغتيالات في موسكو. إلى جانب العديد من الجواسيس داخل وكالة المخابرات المركزية، يعرب أنطونيو أيضاً عن استيائه العميق من ستانسفيلد تيرنر (مدير جيمي كارتر بوكالة المخابرات المركزية، 1977-1981) وآرثر هارتمان (سفير رونالد ريجان في موسكو، 1981-1987)؛ لأنهم فشلوا في بذل المزيد من الجهد؛ لدعم العمليات السرية.
حروب الأروقة الخلفية
يركز الكتاب في فصوله على كيفية شن الحرب الباردة في المختبرات العلمية والأروقة الخلفية، وكذلك المستويات الأخرى في الرأي العام. كما يذكر العديد من الانقلابات المدعومة من وكالة المخابرات المركزية، كما حدث في تشيلي، وفشل وكالة المخابرات المركزية أيضاً في توقع التحديات العميقة لمصالح الولايات المتحدة كما ظهرت في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. «مع بعض الاستثناءات، كانت ال«سي آي إيه» تميل إلى المبالغة في القوة الاقتصادية والعسكرية السوفييتية والتقليل من نقاط الضعف السوفياتية». بحسب المؤلفين.
يتبين من الكتاب أن الخط المتشدد الذي اتخذه العميل السابق لجهاز المخابرات السوفييتي السابق فلاديمير بوتين يشبه التكرار الفعلي للسياسات السوفييتية السابقة. لكن حركة بوتين تكثفت بالتأكيد؛ من خلال توسع الناتو في التسعينات إلى بلدان كانت تتبع الاتحاد السوفييتي أو حتى جمهوريات سوفيتية. حذر جورج ف. كينان وغيره من المراقبين المخضرمين من أن جلب التحالف إلى الحدود الروسية سيؤدي إلى عواقب وخيمة. لكن إدارة كلينتون، التي تحلت بثقة عالية، شعرت أنها يمكن أن تفعل ما تريده إزاء روسيا الضعيفة بقيادة بوريس يلتسين.
يدعي المؤلفان في الخاتمة إلى أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هزمت ال«كي جي بي» في موسكو؛ لكنه يلاحظ أن نظام بوتين قد دفع اللعبة إلى أراض جديدة؛ عبر جهود التلاعب بالحكومة الأمريكية؛ لخدمة مصالح الكرملين.
المؤلفان في سطور
* خدم أنطونيو منديز في وكالة المخابرات المركزية لمـدة خمسـة وعشرين عاماً، وهو ضابط كبير في وكالة المخابرات المركزية، وأحد أفضل خمسين ضابطاً في الخمسين عاماً الأولى فـي الولايات المتحدة. حصل على نجمة الذكاء لفالور على عمليــة «آرغــو»، التي روى قصتها في فيلم عام 2013 يحمل نفس الاسم.
** جونا مينديز هي الرئيسة السابقة لقسم التنكر في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ولديها خبرة تزيد على خمسة وعشرين عاماً ضابطة في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في موسكو وغيرها من المناطق الحساسة. شاركت في عدد من التدريبات، إلى جانب زميلها ثم زوجها أنطونيو. شاركت في كتابة «غبار الجاسوس» مع زوجها حول تجربتهما المشتركة في موسكو خلال الحرب الباردة.