فيلم “ريش” يعود إلى القاهرة.. فماذا بقي منه؟
القاهرة: مع أن قطاعات كبيرة من الجمهور تنسى السينما في رمضان، عندما عرض الفيلم، مُفضِّلة عليها بضاعة الموسم السنوي للمسلسلات، فقد امتلأت قاعة العرض في المعهد بحضور فرنسي كبير جاء راغبا في مشاهدة العمل الذي حصل على الجائزة الكبرى لأفضل فيلم في أسبوع النقاد في “مهرجان كان السينمائي” الفرنسي في دورته الـ 75، وربما ليعرف شيئا من أسباب الأزمة التي أُثيرت حين عُرض الفيلم في “مهرجان الجونة السينمائي” قبل عامين. كما شهد العرض حضورا مصريا ممن حرمتهم تبعات تلك الأزمة من أن يشاهدوا الفيلم في السينما.
وكانت الأزمة قد حدثت أثناء عرض الفيلم في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2021 في مهرجان الجونة السينمائي، الذي شارك الفيلم في مسابقته الرسمية، حين عبّر ثلاثة نجوم مصريين، عن غضبهم من الفيلم، وغادروا قبل نهاية العرض، ثم تحدث أحدهم مُبيّنا سبب انسحابه متهما الفيلم بـ “الإساءة لسُمعة الوطن”، وذلك لأن أحداث الفيلم تدور في أجواء فقر شديد. ومن الغريب أن الثلاثة المُعبرين عن استيائهم يشتغلون في مهنة التمثيل، وقد أدوا في مراحل سابقة من حياتهم، أدوار شخصيات فقيرة. وبدا الأغرب أن تأتي التُهمة، التي لم يكن صعبا أن نتوقع إلى أي حد يُمكنها أن تُصيب صورة العمل وفرصه في العرض بأضرار جسيمة، من نجوم مُتحققين، كانوا ذات يوم شبابا يتلمسون خطواتهم الأولى على طريق السينما مثل صُناع هذا الفيلم. وبسبب ذلك الجدل، وحسب بيشوي بهيج الباحث السينمائي الذي تولى تقديم الفيلم في أمسية المعهد الفرنسي، فإن أحدا من الموزعين السينمائيين في مصر لم يتجرأ على عرض الفيلم في الصالات.
ولولا أن إحدى جهات إنتاج الفيلم فرنسية، ربما ما كُنّا شاهدنا “ريش” على شاشة كبيرة في القاهرة، وذلك على الرغم من جائزته الكبرى في مهرجان “كان”، وحصوله في مهرجان الجونة كذلك على جائزة أفضل فيلم عربي. فالمناخ الحالي لا يستوعب بسهولة هذا النوع من الأزمات، وذاكرة البعض قد أسقطت، لأسباب لا أحد يعلمها، عناوين الأفلام العظيمة في تاريخ السينما، التي تدور في عوالم الفقر، مثل فيلمي المخرج صلاح أبو سيف “بداية ونهاية” أو “القاهرة 30″، أو فيلم “سارق الدارجة” للمخرج الإيطالي دي سيكا، الذي ينتمي لموجة أفلام الواقعية الجديدة، وغيرها الكثير. على أي حال، يُمكن القول إن الفيلم تعرض لاغتيال معنوي إثر تلك الحملة التي اجتذبت بسهولة مُناصرين من المُتحمسين المُتعصبين، الذين يجهلون أو يتجاهلون طبيعة فن السينما.
على أي حال، نحن هنا والآن، وبمناسبة هذا العرض على شاشة المعهد الفرنسي، من الطبيعي أن نتساءل: ماذا تبقى من “ريش” بعد عامين من الأزمة؟
كل شيء من لحم
يبدأ الفيلم بمشهد نسمع ما يجري فيه قبل أن نراه، شاشة سوداء وآهات وصراخ مُخيف لرجل نُخمن أنه يُشعل النار في نفسه. ومع المسافة التي تتخذها الكاميرا من بقايا الجسد المُشتعِل، أو من ذلك اللحم البشري المشوي، يصلح هذا الدخول القاتم، كتمهيد مُعبِّر عن شيء من العالم الذي سيأسرنا فيه “ريش”. والافتتاحية التي تُذكرنا، بلا كثير من عناء، بحادثة الشاب التونسي محمد البوعزيزي، هي كذلك علامة، فالفيلم المبني على حادثة خيالية تماما، عندما يتحوّل رجل إلى دجاجة، يضع قدميه في عالمنا الحقيقي، الذي نسمع أخباره في نشرات التلفزيون، إننا في المنقطة الوسطى بين الخيال والواقع.
لكننا من بعد هذا الدخول، لن نسمع شيئا عن الضحية، سوى قرب نهاية الفيلم ربما، ومن دون تأكيد أو عودة لهذا المشهد. ننتقل بعد ذلك إلى ما وراء ديكور الحريق، وكأننا في منطقة مصانع، فضاء يبدو مهجورا من السكان، أو يصبح فيه السُكان مجرد عابرين فاقدي الروح، مجرد أكوام من اللحم. ووسط هذه المصانع ثمة بيت، أو على نحو أدق، شقة صغيرة، سيجعلنا “ريش” نحفظ تكوينها. يفتح شباكها على مدخنة تُقرر بما يشبه الإرادة الذاتية أن تضخ دخانها الذي يُعمي سكان الشقة في أوقات غير متوقعة، تضطر على إثرها ربة البيت كل مرة إلى إغلاق الشباك. في هذه الصالة ليس هناك سوى سرير شبه عارٍ، وطاولة لتناول الطعام، والجدران جميعها كالحة وسخة، ويبدو الأطفال الثلاثة على الدوام مُتسخين، كأنما بسبب دخان المصانع نفسه. في هذا الجزء من الفيلم، لا يتحدث تقريبا سوى الرجل، أب الأطفال وزوج السيدة، وهو يرتدي ثيابه كل يوم قبل الذهاب إلى العمل، ويستخرج أوراقا مالية قديمة (والأوراق المالية دائما قديمة في أيدي أفراد هذه العائلة)، من خزنة قديمة من الغريب أن يكون لها قفل، ويمنح بعض النقود إلى ربة البيت، مُحددا لها الطعام الذي سيتناولونه هذا اليوم “باذنجان زي امبارح”، في صورة أوامر توجَّه كأنما إلى خادمة.
لا نسمع طوال الفيلم صوت هذه السيدة (تؤدي دورها بطبيعية شديدة دميانة نصّار)، ولا نعرف لها اسما، وهي تبدو على الرغم من اللوحة الباهتة عموما في البيت، الأنصع ظهورا، مع أن قدميها تتركان آثارا على الأرض عندما تسير حافية. نسمع فقط صوت الرجل، حكاياته الخيالية عن البقر الذي يوضع على النار، فيُدرّ لبنا ساخنا. ونسمع كذلك الأصوات المُنبعثة من التلفزيون، الجهاز الذي يبدو فردا من أفراد العائلة إن لم يكن أهم أفرادها على الإطلاق، بما يملك من قوى تُحرك خيال الأبطال أحيانا أو تُسليهم وتُضللهم. نسمع بكاء الرضيع، الطفل الثالث الذي تحمله الزوجة دائما وأبدا، ولا نعرف له جنسا. وذات يوم، وبتأثير مما يراه الرجل في التلفزيون يقرر أن يشتري نافورة فاخرة للزينة، وعلينا أن نتخيّل كم من المال العزيز أصلا اقتطعه كي يقتني هذه القطعة التي لن تُغيِّر شيئا في طبيعة الوضع، ثم يُردد على زوجته، وعلى مُديره لاحقا أنها: “تدي شكل حلو للمكان وفي نفس الوقت شيك”، لكنها مع ذلك ستُصبح شاهدة على مأساته، وإن شئنا الدقة، مأساة السيدة التي ستمسي فجأة بلا زوج.
غريغور سامسا الجديد
إن كان غريغور سامسا، بطل كافكا الشهير في روايته “التحول”، استيقظ ذات يوم ليجد نفسه وقد صار فجأة حشرة. فإن الرجل في “ريش”، استدعى هذا التحوَّل إلى نفسه من دون أن يدري، حين قرر الاحتفال بعيد ميلاد أحد أبنائه فاشترى البلالين والحلوى والألوان، واستدعى ساحرا شعبيا ليُقدم فقرة لطيفة، يُحاكي بها خيال احتفالات الأثرياء التي يراها في التلفزيون. ولعل السحر هو الوحيد القادر فعلا على تغيير تلك الحياة. ثم يطلب الساحر من الرجل أن يدخل إلى الصندوق الخشبي، ثم يُخرِج في المرة الأولى دجاجة، وفي المرة الثانية، وأمام صدمة الساحر ومُساعده من قبل الحضور، تخرج الدجاجة مجددا.
ويقول أحدُ الحاضرين، بنبرة صوت سينمائية: “يا ترى أنت فين يا مرزوق؟”، فهل كان اسم الرجل الذي لا اسم له، مرزوق فعلا أم أنها مجرد محاكاة ساخرة، وربما تحية للأفلام المصرية القديمة؟ الحوار في “ريش” على قلته هو أحد علامات الحالة العبثية التي يُقدمها الفيلم. عندما يزور المُدير عيد الميلاد، كي يقدم لمرؤوسه عيديته، ويَعُدّها فرصة للتباهي بوضعه الأعلى في الهرم السلطوي، يقول للطفل الصغير: “خليك شاطر ومتبقاش رِمّة زي أبوك”، لا تستدعي الإهانة أي حساسية من جانب الأب، على العكس تماما يمتن للأوراق النقدية، ويختطفها سريعا من الطفل.
وإن كُنا عشنا في “التحوَّل” مأساة غريغور سامسا نفسه، وقد استحال إلى حشرة لم يعد يرغب فيها، حتى أقرب الأقربين. فإن “ريش” يترك الدجاجة جانبا، ويُشهِدنا على مأساة الأسرة نفسها، الأطفال والزوجة، والأخيرة تحديدا على العكس من أفراد عائلة سامسا، ستحفظ لزوجها المُختفي كل وضعه السلطوي داخل البيت. أهو خوف شديد؟ أم عجز؟ أم حُب؟ لربما الإجابة هي جميع ما سبق. ستترك له غرفة النوم، وتسعى لتوفير غذاء الدجاجة طوال الوقت، وحين تبيت الدجاجة عليلة ستُنفق آخر ما معها من أوراق نقدية قديمة كي تُبقي الدجاجة على قيد الحياة، فضلا عن دورانها سدى بين أحياء منطقة المصانع الخالية من السكان، على ساحر ماهر، قد يُصلح ما أفسده الساحر القديم.
وربما نقول في واحدة من التأويلات، إن هذه السيدة في “ريش” هي التي تحوَّلت إلى حشرة، وتعرضت للتنكيل، إن كُنا ما زلنا نُفكر في غريغور سامسا. فالحياة المُحيطة بها، تتفق على استلابها، وهي لم تكن من قبل بريئة أصلا من الاستلاب في حضور ذلك الرجل، لكنها الآن أيضا خاضعة لمدير هذا الزوج، إحسانه المشروط عليها وعلى عيالها، وخاضعة لبيروقراطية الحكومة التي لا يُمكن أصلا أن تُخبرها أن رجلها تحوَّل إلى دجاجة، وعليها أن تجد حجة أخرى أو حتى جثة لتسوية وضعه على الأوراق. وهي خاضعة كذلك إلى إدارة الإسكان التي تريد أن تنتزع منها تلك الشقة العارية كالحة الجدران لأن الزوج لم يكن يسدد بانتظام إيجارها، وستكون لاحقا، عندما تعمل في بيوت الأغنياء، خاضعة لمنظومة كاملة من العلامات لم تكن تعرف عنها شيئا. إن جسدها، وهي تمسح وتنظف يتحوّل إلى ما يشبه الآلة، الخُردة، أو مجرد هيكل. عالم آخر، لا تعبره هذه السيدة، بل هو يعبرها تاركا كل الآثار والكدمات. وحتى حين تستسلم لهذا الاستلاب، هل يُمكن أن تطمئن إلى أنها لن تُواجَه بضربة جديدة، إن لم يكن من ذلك العالم الآخر، فمن نفسها التي لا تعرف عنها شيئا. فهل هناك مساحة، وسط تلك الحياة، لتأمل أي شيء، بما في ذلك الذات؟
الذبيحة
يمتلئ ريش، ليس فقط بريش الدجاج، لكن بالعديد من الحيوانات، كالقرد، والأبقار المذبوحة المتناثرة هنا وهناك، بدماء تلك الحيوانات ونزيفها المُستمر. والبشر في ذلك العالم يؤاخون الحيوانات، إنهم بشكل ما في الصورة الكبيرة، رفقاء هذه الأسرة، وهما مثلها ومثل أطفالها يُسيّرون إلى مصائرهم المجهولة فداء لما لا يعرفونه ولا نحن نعرفه. هناك مشهد صراخ وغضب الأطفال بعد اختفاء الأب، وهو غضب لا لغة له، تقريبا كالذي تعيشه الحيوانات. كما أن هذه السيدة، التي تحمل عبء الأسرة وعبء الفيلم بطريقة ما، لا تملك شخصية درامية بالمعنى المعروف، فهي امرأة تخضع كل خضوع ممكن للظروف، وتحوّلاتها دائما تحت الطلب. كلما طلب العالم منها أضحية استجابت، وحتى حين سيطلب المصنع الذي كان يعمل به زوجها، أن يحلّ أحد الأولاد محله في العمل، في مقابل تسديد بعض أقساط المنزل، لن تتورع عن تقديم ابنها الأكبر. مع الوقت كذلك ستحاول أن تفهم لعبة السلطة، وأن تستفيد منها إن أمكن، ثم أن تحتال بالسلطة على السلطة، هذه في النهاية هي الفلسفة غير الواعية للفقر.
دميانة نصّار هي بكل تأكيد نجمة هذا الفيلم الثوري الذي كان يُمكن أن يستمر إلى الأبد. مع عدد آخر من المُمثلين غير المُمثلين أصلا، الذين يأتون من الحياة الحقيقية، ولا يتحدثون بطريقة السينما والتلفزيون، بل بطريقة الواقع المُعاش، اللا معقولة أحيانا والعبثية. وعلى الرغم من هذا التقشف الشديد في الحياة في “ريش”، فإن عُمر الزهيري، لم يحرمنا من رؤية السماوات الواسعة وإن كانت غائمة، ولا من الأغنيات والموسيقى ومشهد الرقص الكوميدي للموظفين، الذي بفضله على سبيل المثال سنرى من دميانة نصار ابتسامة ثانية، بعد ابتسامتها الأولى في فقرة الساحر المشؤومة.
“ريش” هو شهادة على أن السينما المصرية ولّادة، ما تزال تستطيع أن تُدهِش وتبتكر وتثور، حتى وسط أشد الأحوال كآبة.
أريج جمال – المجلة