فرنجية وأزعور مرشحا إفلاس لبنان… ومقاتل حزيران
قد يكون مفهوما، بل شديد الوضوح، إصرار سليمان بك فرنجية على الوصول إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية. فهو، أبا عن جد، من صلب ما كان يسمى “البيوتات السياسية” في لبنان منذ نشوء دولته سنة 1920. وقد توسعت هذه “البيوتات”، وتضخمت أعدادها في سنوات الحروب الأهلية (1975-1990) وعهد “الوصاية السورية” على لبنان حتى العام 1995. لذا صارت تسمى “المنظومة الأوليغارشية” الحاكمة، “المتسلطة الفاسدة والمافياوية” منذ “ثورة” 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
مرض أزعور الرئاسي
لكن ما ليس مفهوما، بل يستحيل فهمه وتفسيره، هو رغبة الخبير المالي والاقتصادي السيد جهاد أزعور في منافسة فرنجية للوصول إلى رئاسة جمهورية أفلست ماليا واقتصاديا، وانحطت سياسيا وأخلاقيا، إلى ما صار مضرب مثل عليهما في العالم، وتصدعت جماعات أهلية- طائفية متناحرة، يتصدرها زعماء طائفيون وعشائريون وميليشياويون، منهم فرنجية وأمثاله.
السيد أزعور ليس من هؤلاء. لكنه بالتأكيد يعلم ماذا يفعلون، وهو كان ولا يزال شاهدا عليه: أدمنوا إعالة مواليهم وأتباعهم وأهل عصبياتهم من ريوع مناصبهم في رئاسات ووزارات دولة استنزفوها حتى نضبت مواردها، ويصرون على المزيد حتى الثمالة. لكنهم لا يجدون اليوم في العالم كله من يلتفت لإعانة دولتهم وإعالتها لإخراجها من قعر الحفرة التي هوت إليها.
فإلى تعيينه وزيرا للمالية اللبنانية ما بين 2005 و2008، خبر أزعور آليات “مناهبة” دهاقنة السياسيين اللبنانيين خزينة الدولة قبل إفلاسها، شاهد بعينيه أرقامها وغض طرفه وسكت عنها، واستمر في منصبه الوزاري. ومن موقعه بعد ذلك (مدير إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في صندوق النقد الدولي) يعلم علم اليقين كم من المستحيل كفّ أيدي أولئك الدهاقنة عما احترفوه وأدمنوه (المناهبة) ويسمونه بكل فخر: السياسة والحياة السياسية.
فما الذي يريده السيد أزعور إذن من ترشحه لرئاسة جمهورية المتناهبين، وكيف يمكن تفسيره؟ هل يريد أن يرتقي من منصب وزير إلى منصب رئيس ليوسع معرفته في علوم “المناهبة” اللبنانية، ويحترف دور “شاهد ما شفش حاجة”، أم ليصير شريكا مضاربا في عملياتها؟
ربما يعلم أزعور أنه لا يملك أن يكون ذلك الشريك. وقد يكون مثل خاله الراحل جان عبيد، الذي كان طامحا أبديا إلى رئاسة الجمهورية، كيفما اتفق ومن أي طريق وظرف تحصلت، من دون أن يملك إلى ذلك سبيلا سوى سعيه في إرضاء دهاقنة المناهبة والعصبيات المتجذرة، وسواهم من رعاتهم الإقليميين.
وقد تسهم ظاهرة مرضية لبنانية بامتياز في تفسير رغبة السيد أزعور الرئاسية: هوس اللبنانيين الغرامي، الفصامي والعظامي، بالتصدر والمناصب. تماما على مثال هوسهم بركوب سيارات جديدة، فخمة وفارهة، قيادتها واستعراضها، على طرق وشوارع معتمة، مهملة ومهترئة ومليئة بالحفر، وتتبعثر على جنباتها أكوام النفايات في مدن مطفأة وخاوية… فيما هم ذاهبون بشموخ وتشاوف إلى سهراتهم في مطاعم فاخرة، أو إلى قراهم وبلداتهم الجبلية في عطلة نهاية الأسبوع.
الإرث والثارات والرئاسة
أما سليمان بك فرنجية فلا يكترث بنضوب ريوع الدولة والجمهورية الخربة التي يسعى إلى رئاستها.
فابن العشيرة الزغرتاوية المارونية المتصدرة في شمال لبنان الماروني، ليس علاّمة في الاقتصاد ولا في السياسات المالية والإدارة العامة. وشأنه في هذا شأن من ينافسونه في تلك المنطقة منافسة تنطوي على عداوات وثارات مبيّتة: زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع، ابن بلدة بشري المارونية المتاخمة لإهدن معقل فرنجية الجبلي الصيفي. وأنصار تيار رئيس الجمهورية الأسبق ميشال عون وصهره جبران باسيل.
وسليمان بك فرنجية ابن طوني بك فرنجية قتيل ثارات عشائرية وميليشياوية مارونية متجذّرة، تعود إلى بدايات الحروب الأهلية في لبنان. وهو حفيد رئيس جمهورية ورث عنه اسمه العَلَم أو الشخصي، بناء على تقليد عشائري وعائلي راسخ. وكان سليمان الجد انتُخب رئيسا سنة 1970. وفي نهايات عهده نشبت حروب لبنان، فهجّره من قصر بعبدا الجمهوري إقدام أحد ضباط الجيش اللبناني المنقسم على قصفه بقنابل مدفعية “جيش لبنان العربي”.
وكان الرئيس الجد قد أطلق في بداية عهده الرئاسي شعارا قال فيه للبنانيين: “ناموا وأبواب بيوتكم مفتوحة”. أما أبناء عشيرته وأهالي زغرتا فيُروى أنه قال لهم بعد انتخابه: “لا أريد أن يبقى أحد منكم محتاجا أو فقيرا بعد اليوم”.
وفي شبابه البعيد كان سليمان فرنجية العضد المحلي لزعامة شقيقه في زغرتا، حميد فرنجية، الذي كان نائبا في البرلمان ووزيرا للخارجية وسواها، وقطبا في ما كان يسمى “الصالون السياسي البيروتي”، جامع مقدمي ونخبة أبناء البيوتات/ العائلات السياسية الأساسية الفاعلة في لبنان، أيام الانتداب الفرنسي وبعده في العهد الاستقلالي. وعقب ما سمي “الثورة البيضاء” التي أطاحت رئيس الجمهورية بشارة الخوري سنة 1952، بعد تمكنه من تجديد عهده الرئاسي، كان حميد فرنجية مرشحا محتملا وقويا لرئاسة الجمهورية. لكن المناورات السياسية في الساعات الأخيرة أقصته لصالح كميل شمعون. وقيل آنذاك إن حميد فرنجية نام رئيسا واستيقظ على انتخاب شمعون المفاجئ.
وفي أعقاب المقتلة العشائرية بين آل الدويهي وآل فرنجية الزغرتاويين سنة 1957 في كنيسة مزيارة البلدة الشمالية- قتل فيها 33 شخصا من العائلتين ومن لفيفهما العشائري، وتُجمع مصادر كثيرة على أن “بطلها” كان سليمان فرنجية- فرّ سليمان بك إلى سوريا. وهناك حلّ ضيفا معززا مكرما في ديار الضابط الطيار حافظ الأسد. فنشأت بين سليمان بك وأبو سليمان (الأسد) صداقة حميمة ومتينة ورّثها فرنجية الجد لحفيده لاحقا، والذي سمّي في زغرتا ولبنان “سليمان الصغير” بعد مقتل والده طوني سنة 1978، وانكباب جده على تنشئته لتولي الزعامة بديلاً عن والده القتيل.
وكان سليمان بك فرنجية قد عاد من سوريا إلى لبنان في العام 1960، بعد حرب أهلية لبنانية- إقليمية صغيرة سنة 1958، وانتخاب الجنرال فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية. وكانت عودته في إطار تسوية “عفا الله عما مضى”، فتولى الزعامة العشائرية في زغرتا وصار نائبا في البرلمان ووزيرا، كوريث لشقيقه حميد الذي كان المرض قد أقعده. وسنة 1970 فاز سليمان فرنجية في انتخابات رئاسة الجمهورية بفارق صوت واحد عن المرشح الشهابي إلياس سركيس.
مقاتل حزيران
لا ندري اليوم أهي من محاسن القدر وأفراحه أم من مآسيه ولعناته أن يكون سليمان بك طوني فرنجية مرشحا لرئاسة الجمهورية في جلسة الانتخاب المنعقدة في 14 يونيو/حزيران الحالي. أي بعد يوم واحد من الذكرى الخامسة والأربعين لمقتل والده يوم 13 يونيو/حزيران 1978. كان سليمان طفلا آنذاك. وشاءت المصادفات والأقدار أن لا يكون في منزل أسرته الصيفي في إهدن، حيث قتل والداه وشقيقته الطفلة. هذا فيما تحلّ بعد 3 أيام الذكرى الـ71 لمقتلة مزيارة التي كان جده “بطلها” في 16 يونيو/حزيران 1957.
الأرجح أن هذه التواريخ الدموية حاضرة بقوة الإرث العشائري في ذاكرة المرشح الرئاسي اليوم، سليمان بك فرنجية. لكن بماذا يشعر يا ترى؟ أيحزن؟ أم يفرح بأن الثأر لوالده قد حان موعده اليوم، فيما هو يخوض (معركة أم ثأرا؟) الانتخابات الرئاسية، بعد يوم واحد على ذكرى مقتل والده؟
وهل يتذكّر سليمان بك فرنجية عنوان رواية ابن بلدته الروائي الراحل جبور الدويهي “مطر حزيران” المستوحاة من مقتلة مزيارة سنة 1957؟
هذه المقتطفات والمحطات من سيرة آل فرنجية الدامية، هي لب السيرة السياسية للعائلة، ولب طموح وريث زعامتها إلى رئاسة الجمهورية. أما الجمهورية وإفلاسها وانهيارها وخرابها فليست في الحسبان.
محمد أبي سمرا