عن الفلسفة والدين
عبد الحسين شعبان
يوم صدر كتاب شكيب إرسلان «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟»، أجاب فيه عن سؤالين، الأول: عن أسباب الضعف والانحطاط التي يعانيها المسلمون؛ والثاني: عن أسباب ارتقاء الأوروبيين، والأمريكيين، واليابانيين، ارتقاء هائلاً. وعند التفصيل أشار إلى «العلم الناقص» الذي هو أشد خطراً من «الجهل البسيط»، لأن الابتلاء بجاهل خير من الابتلاء بشبه عالم، فالإيمان صار سطحياً، والإسلام مجرد قول من دون فعل، والقرآن الكريم ترنيماً وترتيلاً، وليس العمل بالأوامر، واجتناب النواهي، مشيراً إلى خذلان المسلمين لبعضهم بعضاً، وفساد الأخلاق، فليس المسلم من وجهة نظره هو من يؤدي الصلاة، والصيام، ويسبّح بحمد الله.
لقد أعاد إرسلان نقاشاً كان بدأه سبينوزا عن علاقة اللاهوت بالسياسة، في محاولة تفكيك فتاوى اللّاهوتيين، من خلال علاقة الدين بالفلسفة، وعلاقة العقل بالدين، فحسب اللاهوتيين ينبغي أن تطيع الفلسفة علم اللاهوت، بل أن تكون تابعة، له لأنه أشرف العلوم، وأرقاها.
وأشار سبينوزا إلى أن حرّية الفلسفة والتفلسف ليست ضد الدولة وأمنها، مثلما هي ليست ضد الورع، والتقى، وهدفها تفسير النص الديني (الكتاب المقدس) معترفاً بدور الدين، وقيمه الأخلاقية السامية، ولكنه ينفي عنه الغيبيات، والطقوس، والخرافات، والمعجزات؛ فالأديان بعيداً عن العصبيات ينبغي أن تعلّم الحكمة، والموعظة، والقيم الإنسانية، وليس غير العقل من يقوم بذلك، وهكذا فالفلسفة ليست ضد الدين، لكنها ضد التعصّب الديني والتمترس الطائفي.
ومنذ أكثر من ثمانية قرون كان هناك من انتقد الفلسفة والتفلسف، وقد كفّر الغزالي التفسير العقلاني للدين الذي اجتهد فيه ابن سينا، والفارابي، وذلك حين كتب كتابه الموسوم «تهافت الفلسفة» الذي ردّ عليه ابن رشد بكتاب عنوان «تهافت التهافت»، لكن ابن رشد الذي شدّد على أن القرآن والدين يدعوان إلى إعمال العقل بالمعنى البرهاني قُمع وأحرقت كتبه وجرت محاولات للانتقام منه، وطمس صوته، وتشويه سمعته،علماً بأنه أعلى من شأن الحرّية، والروح، وهما أساس الدين، والإيمان، لاسيّما الجوهر الصافي العرفاني النقي والإنساني.
إن جوهر تفسير ابن رشد يستند إلى أن الدين لا يمكن فهمه إلّا في ضوء الفلسفة، وهما رفيقان حميمان لا انفصال بينهما، ذلك هو الدين الروحاني العقلاني القيمي المستنير الحر، فالفلسفة حق، والدين حق، والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد عليه.
لقد عاد ابن رشد إلينا من النافذة الأوروبية في القرن العشرين، وكان مثل هذا الغياب يفسّر لنا لماذا انحدر المسلمون في دهاليز الظلام، في حين أخذ غيرهم بعلومهم ليتقدم، لاسيّما بإحكام العقل والعلم؟ وقد تنبّه إلى ذلك دعاة الإصلاح الديني من أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورفاعة الطهطاوي، وعبد الرحمن الكواكبي، والتونسي، وغيرهم الذين تأملوا في السؤال الكبير: لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
ومع أن دعاة الإصلاح والنهضة طرحوا السؤال إعجاباً بتقدّم أوروبا في ذلك الوقت، لكن ثقل الماضي ومخزونه السلبي لا يزال يحكمنا، ويتحكّم فينا، فلم نتخلص بعد من صدمة الاستعمار التي حكمتنا سنوات، وأعدنا ميراث الماضي في دول مركزية شديدة الصرامة، فلم نستطع أن نواكب التطور والحداثة، خصوصاً بتعظيمنا نسق العلوم الدينية على حساب نسق العلوم العقلية، فالأولى تعتبر العقل نسبياً، في حين أن النص مطلق، ولهذا ينبغي إخضاع الثاني للأول، بل ينبغي أن يكون تابعاً له. ويعتقد أصحاب المدرسة اللاهوتية في الفقه أن العقل محدود بحدود «الشرع» ومهمته تطبيق النصوص الدينية، الأمر الذي يجعل العقل محدود القيمة لأنه لا يستطيع المغامرة بحثاً عن المعرفة خارج المنظور الديني.
إن مثل هذه النظرة الاستباقية لدور العقل تجعله محصوراً في إدراك ما يقوله الشرع، وفي تفسير النصوص الدينية، والسير لتطبيقها، ما أدى، ويؤدي إلى التخلف المعرفي أولاً، والعقلي ثانياً، والعلمي ثالثاً.
ونستطيع القول، إنه لا يمكن إحراز نهضة حقيقية من دون الإقرار بالحق في الفلسفة والتفلسف، وبالتالي الحق في الاختلاف والاجتهاد والحرّية خارج دوائر الإجماع المصطنع، لأن ما يحرك التاريخ هو الصراع، والحوار، والجدل، والاختلاف، والتبادل، والتفاعل، وإلّا فإن مجتمعاً ساكناً سيكون مجتمعاً ميتاً، والأساس هو حركيته، وديناميته، وتنوعه، وتعدديته، واختلافه، وتلك قيم إنسانية باعتمادها يمكن أن نواجه التحدّيات الخارجية، والداخلية، في محاولات فرض الهيمنة والاستتباع الأجنبي من جهة والطغيان والاستبداد الداخلي من جهة أخرى، وذلك باستخدام العقل الذي هو أساس فلسفة الدين.
drhussainshaban21@gmail.com