بشت أبو ناصر الذي لا يوجد مثله بالخليج
في البدء أعزي الإخوة في الكويت وأسرة آل صباح والخليج والعرب والمسلمين في وفاة سمو الشيخ صباح الأحمد الصباح، الله يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته. هو القائد السياسي الفذ والمحنك، وهو في نفس الوقت قائد العمل الإنساني. إن مناقب الشيخ صباح كثيرة سواء على الصعيد السياسي كشيخ للدبلوماسيين العرب وخبرة زاخرة في السياسة تمتد لعقود طويلة، وعمله الفريد في المجال الإنساني والتنموي، قائد سفينة تطوير الكويت وتقدمها، وهو رمز التواضع للكويتيين.
لكن سأتكلم عن الشيخ صباح من زاوية أخرى، لنا في الكويت العديد من الأصدقاء والمعارف وأستطيع القول خلال سنوات تكونت علاقات مع مختلف شرائح المجتمع الكويتي، هذا غير زيارة الكويت المتكررة، والمجتمع الكويتي فيه الكثير من التعددية والتيارات، هناك الحضر والبدو والعرب والعجم (أو كما ينطقها الكويتيون: عيم)، وهناك السنة والشيعة، هناك الأحزاب والحركات السياسية مثل السلف والإخوان واللبراليين ومحبي إيران إلخ … أيضا سجالات مجلس الأمة الكويتي ومغامراته ليست خفية عن أي أحد متابع للشأن الكويتي. في وسط هذه المعمعة والتي أثارت نوعا من الخشية للمتابعين الخليجيين من محبي استقرار الكويت، كنا نقابل مختلف الأطياف من نواب البرلمان أو أعضاء حكومة، وبعض عوائل الكويت المعروفة في بعض المناسبات، سواء داخل الكويت أو في الخارج. صحيح كان هناك نوع من الخلافات بين بعضهم البعض والكثير يلقي باللائمة على الآخر، لكن بالمقابل كان هناك عامل استقرار واحد يجمع عليه كل الكويتيين بمختلف فئاتهم وهو الشيخ صباح، رغم خلافاتهم هم يعرفون السقف، كلهم تحت خيمة الشيخ صباح والأهم من ذلك، أننا كنا نرى يقينا منهم أنه مهما كبرت الأمور فإن مردها للأمير يحلها بطريقته ! العجيب والمميز أن حتى من يريد المشاغبة بعض الشيء فإنه سيعرف حدوده وسقفه من خلال رسالة الشيخ بدبلوماسيته المعهودة وبطريقة مميزة، لدرجة أن البعض كان يعترف أنه كان يبالغ دون أن يشعر، ورسائل الشيخ هي ما أعادته إلى تحت سقف خيمة الكويت. كان الشيخ صباح الأمير الوالد، ويحل مشاكل البيت للجميع سواء أسرة حاكمة أو سياسيين أو شعب. يقال في الكويت اصطلاحا إن الأمير هو أبو السلطات، لكن عمليا وحرفيا كان الشيخ صباح هو أبو الكويتيين، مهما اختلفوا هم مطمئنون على استقرار رأس البيت وحكمته. عادة الخليجيون يكونون أكثر انفتاحا وأقل تحفظا في نقاشاتهم بالخارج، والأصدقاء الكويتيون أثناء نقاشاتنا في أوروبا رغم اختلاف مشاربهم، قد يكون بعضهم مع الحكومة أو ضد، أو مع هذا التيار، أو ضد، لكن كانوا يجتمعون مع بعضهم البعض في جلسات ونقاشات وأفضل ما يلخص النقاش، أنه إذا تطرقوا لموضوع أحد ما، قد بالغ أو تهور في تصرف ما، فإنه سيرجع بطريقة أو بأخرى لجادة الصواب، وكما قال سياسي كويتي محنك لي: «لا تخاف بكرة بيرجع تحت بشت أبو ناصر، قبله كثيرين»، فتسمع من الجميع في المجلس على اختلاف تياراتهم، يردون بكلمات تأييد وإجماع على ذلك، كان بشت أبو ناصر الله يرحمه من يحوي ويحتوي كل الكويتيين بمختلف آرائهم ومشاكلهم.
هذا سر المعادلة، بشت أبو ناصر وحنكته، هكذا استمرت الكويت في دورها الخليجي والعربي والدولي باقتدار، رغم ما يبدو أنها مشاكل داخلية لمن لا يعرفها.
أيضا بخبرة بشت أبو ناصر عملت الكويت وسيطا بين الدول الخليجية وحلقة وصل بين دول المجلس أثناء الخلافات. فكما هو معلوم أن من أهم عناصر نجاح أي وساطة أن يكون الوسيط مقبولا من الطرفين، إضافة لأن يكون محنكا وحكيما، وكثير من أزمات الخليج السابقة بين دول المجلس كانت الكويت، وكان الشيخ أبو ناصر الوسيط المحبب لكل الأطراف،حتى الأزمة الخليجية الأخيرة، نحن وقصرانا (لمن لا يفهم الخليجية؛ قصرانا تعني جيراننا)، فإن بشت أبو ناصر كان حاضرا. ومن الصفات المميزة في دبلوماسيته رحمه الله، أنه في العلن يتعامل مع الأطراف بكل احترام ومدح وعدم إلقاء لوم، حتى لا يحرج أي طرف أو ينتقصه علنيا، لكن خلف الأبواب المغلقة يكون صريحا ويصف الوضع بكل دقة وموضوعية ويزن الأمور، ويختار كلماته ورسائله بذكاء.
وامتدت وساطات أبو ناصر رحمه الله خلال سنوات عمله السياسي إلى الشؤون العربية والدولية، وهي عديدة، ومنها على سبيل المثال وساطته بين الأردن والفلسطينيين في أيلول الأسود، وبين العراق وإيران، وبين باكستان وبنجلادش، والرائع أنك ترى نتائج ونجاحات لهذه الوساطات عبر تاريخ أبو ناصر السياسي.
يطلق الكثيرون على أبو ناصر أنه باني نهضة الكويت الحديثة، سواء من خلال عمله نائبا ثم رئيس وزراء، ثم أميرا للكويت، وهذا موضوع يطول شرحه، قد يتكلم فيه الإخوة الكويتيون ويكتبون عنه أكثر لأنهم عايشوه، لكن من الصفات المميزة للشيخ صباح هو تواضعه وبساطته الشهيرة. تتوقع من رجل دبلوماسي محنك، عاشر لعقود أحلك أزمات العالم أن يكون متحفظا، لكن أبو ناصر كان عكس ذلك تماما، كان متواضعا يحب البساطة، يأخذ الأمور بعفوية. سمعت من أكثر من شخصية كويتية يرددون تقريبا نفس الفكرة (تتوقع أن رجلا مثل الأمير بما عنده من حنكة وسياسة ويوميا ومشغول يحل مشاكل الكويت … هذا غير مشاكل الخليج ويوم تقابله تتفاجأ بشدة بالتواضع بالعفوية والبساطة في التعامل معك)، حتى على مستوى شعوب الخليج، معروف بتواضعه وبساطته ولبسه وعدم تكلفه، خصوصا عندما يذهب في إجازته السنوية للقرية المحببة له في صلالة بسلطنة عمان، كان يحب شيئين، البساطة و»الحداق» وهو صيد السمك بلهجة الخليج.
العلاقة بين الملك سلمان والشيخ صباح علاقة تاريخية، وعميقة تمتد لعقود، قبل أن يحكما وبعد أن حكما، شيء معروف لكل الخليجيين الصداقة الخاصة التي تجمعهما، وهما رجلان من طراز نادر. كلمات الملك سلمان كانت واضحة «فقدت برحيل الشيخ صباح الأحمد الصباح -رحمه الله- أخا عزيزا وصديقا كريما وقامة كبيرة، له في نفسي مكانة عظيمة وتقدير يستحقه، نفتقده كما يفتقده شعبه».
فعلا ليس الكويت فقط بل الخليج فقد قائدا حكيما فريدا، فتعازينا مرة أخرى لكل الكويتيين والخليجيين.
Next Page >