تنميةثقافة

الوعي بين الألم والانتباه.. تأملات في نبض الحضور الإنساني

المصدر

في عالمٍ يزداد صخبه وتسارعه، قد يبدو الحديث عن “الوعي” وكأنه رفاهية فكرية أو ترفٌ لا يتسع له الزمن. لكن الحقيقة أن الوعي هو صلب التجربة الإنسانية، وأعمق ما يميز الكائن البشري عن غيره: أن يكون حاضرًا، أن يكون مدركًا، أن يختار.

الوعي ليس مجرد فكرة ذهنية، ولا حالة استثنائية نبلغها بالجهد فقط. هو حالة حضور. لحظة يكون فيها الإنسان مع نفسه، لا مجردًا عنها، ولا خائفًا من مواجهتها. هو تلك اللحظة التي يتوقف فيها العقل عن الدوران الآلي، ويبدأ الإنسان في رؤية ما كان يمرّ عليه دون انتباه.

لكن لا أحد يبقى في وعي دائم.. كما لا يبقى القلب في انقباض دائم. الوعي ينبض، يتردد، يتذبذب. لحظات من الانتباه العميق، تتبعها غفلات، ثم يعود النور من جديد. وهذا التذبذب لا يعني فشل الإنسان في وعيه، بل يؤكد إنسانيته.
فالحياة تتشكل في المسافة بين حضور وغياب، في المساحات الرمادية بين يقظة ونوم داخلي. ومن يفهم هذه الحقيقة، يتصالح مع نفسه، ويتوقف عن جلد ذاته كلما غابت عنه لحظة الوعي. فليس المطلوب الكمال، بل الرجوع كلما غبنا.

وإذا كان هناك شيء قادر على إيقاظ الإنسان من غفلته، فهو الألم. ذلك الزائر الثقيل الذي لا يأتي إلا وفي جعبته رسالة. الألم في جوهره ليس خصمًا، بل مرآة. ليس مجرد شعور سلبي، بل مقاومة داخلية للواقع، صراع خفي بين ما هو كائن وما كان ينبغي أن يكون. وهنا، يتخذ الإنسان أحد طريقين: إما أن يهرب، فيفقد وعيه، أو يتأمل، فيبدأ الرحلة.

الإدراك بدوره لا يكتمل دون وعي. كثيرون يرون، يسمعون، يشعرون… لكن دون وعي، تبقى هذه الإدراكات بلا معنى. العقل قد يغيب أو يتشتت، لكن الوعي هو من يُحضره. هو من يمنح للإدراك روحه، وللمعرفة قيمتها.

وفي قلب هذا المشهد كله، يقف سؤال واحد: “لماذا؟”
لماذا أشعر بهذا؟ لماذا أكرر نفس الأخطاء؟ لماذا يبدو الألم متكرراً؟ هذه الأسئلة لا تأتي عبثًا، بل تُولد من حاجة داخلية، من لحظة ضيق أو اصطدام بالواقع. والسؤال الأعمق هو: لماذا الألم؟
لأنه غالبًا مقاومة لما هو، وتمسك بما كان ينبغي أن يكون. وهنا بالضبط يبدأ الوعي الحقيقي، لا حين نجد إجابة، بل حين نبدأ برؤية السؤال كما هو.

في لحظة ما، قد يتوقف الإنسان عن مقاومة ألمه، ويتحول بدلاً من ذلك إلى مراقبٍ متأمل. يسأل الألم بدل أن يهرب منه: “لماذا جئتني؟” وهنا تتغير العلاقة من صراع إلى حوار. يصبح الألم أداة لا عائقًا، معلّمًا لا معذِّبًا. نراه كما هو، ونسمح له أن يكشف لنا ما لم نكن نراه. وبهذا التحول، لا يبقى الألم مجرد لحظة عابرة، بل محفّزًا دائمًا لحضور أعمق.

ويظن البعض أن الوعي هو نهاية الطريق، لكنه في الحقيقة بدايته الحقيقية. هو لحظة الانتباه التي تمنح الإنسان حقه في الاختيار، ووعيه بقدرته على القرار. حين يحضر الوعي، تستعيد النفس سيادتها، ويصبح الإنسان قائدًا لمساره لا تابعًا لألمه أو لعاداته أو لبرمجته السابقة. من تلك اللحظة، تبدأ الحياة الواعية، حيث القرار نابع، والاختيار مسؤول.

الوعي في جوهره ليس حالة ثابتة، بل أشبه بتنفس الروح: يتردد، يغيب، ويعود. أن تعيش بوعي لا يعني أن تكون حاضرًا طوال الوقت، بل أن تملك القدرة على الرجوع، في كل مرة تغيب فيها. الوعي ليس كمالًا، بل مرونة. ليس ضغطًا، بل نعمة. وحين نفهمه كنبض حياة، نصبح أقل قسوة على أنفسنا، وأكثر حبًا للحياة… كما هي.

هذه ليست محاولة لتعريف الوعي، بل دعوة للتأمل فيه. لأن الوعي لا يُلقَّن، بل يُكتشف. لا يُعلَّم، بل يُعاش. وإن كنت قد وصلت إلى هذه السطور الأخيرة بشيء من الانتباه، فربما، فقط ربما، بدأت رحلتك الخاصة.. من هنا.

طارق القرني

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here