المقامة في مصر
لم تظهر الأقصوصة في مصر دفعة واحدة لكنها مرت بدور يعتبر تمهيدا لظهورها على النحو الذي عرفت به لدى الغرب، كما أنها عندما كتبت على نحو الأقاصيص الأوروبية مرت بتجارب عديدة وخضعت لمؤثرات عامة، وقد كانت المقامة هي الخطوة الأولى التي خطتها مصر في سبيل الأقصوصة، ثم تطورت المقامة نفسها إلى صورة أخرى تكاد تبعدها عن طبيعها الأولى، ولكنها مع ذلك احتفظت ببعض مقوماتها وظهور المقامة يرجع في الحقيقة إلى عاملين أساسيين:
أولهما: حركة بعث التراث العربي وإحياء الكتب القديمة والعودة في النماذج الأدبية إلى ما كان معروفا لدى العرب في عصر الازدهار في الشعر والنثر على السواء، وقد كان للمطبعة دور هام في حركة البعث هذه، فقد تولت نشر كثير من التراث العربي وتقديمه للناس، ولم يكن للمطبعة في النصف الأول من القرن الـ19 جهود كبيرة في هذا المجال ذلك أن أول مطبعة أهلية لم توجد في مصر إلا عام 1861، أنشأها الأنبا كيرلس.
وفي نفس العام أنشئت مطبعة وادي النيل.
كما أن مطبعة بولاق نفسها مرت بظروف سيئة بعد عهد محمد علي وحتى في عهده كانت تتولى في الأغلب طبع المؤلفات والمترجمات التي تخدم حركة محمد علي وتوجيهه للتعليم، وقد كان عصر إسماعيل عصر ازدهار بالنسبة للطباعة، فقد نهض بمطبعة بولاق وأسس مصنعا للورق، وفي عهده أنشئت مطبعة جمعية المعارف والمطبعة الأهلية القبطية والمطبعة الوطنية بالإسكندرية والمطبعة الوهبية.
وقد تولت هذه المطابع وغيرها حركة بعث التراث العربي، كما أن الجمعيات العلمية المختلفة تولت نشر عدد كبير من هذه المؤلفات القديمة، وفي كتابي عصر إسماعيل للرافعي وتاريخ آداب اللغة العربية لزيدان إشارات كثيرة لبعض هذه المطبوعات، إذن قد كان ظهور المقامة جزءا من حركة البعث العربي، وإن كنا لا ننسى جهود المستشرقين في بعث المقامة بالذات، فقد نشر (دوساس) مقامات الحريري في أوروبا وترجمها أيام الطهطاوي هنالك. أما العامل الثاني فهو الصحافة، وسنرى أن المقامات الحديثة في مصر قد نشرت أول ما نشرت في الصحف والمجلات، وسبب اهتمام الصحف بها إلى جانب العامل الأول هو ملاءمتها من حيث الحجم وطواعيتها لاستيعاب كثير من الموضوعات التي تهم ذلك العهد، سواء أكانت موضوعات علمية أو أدبية أو اجتماعية، وبمعنى آخر استخدامها كمقالة، والأمر في هذا الموضوع ليس محتاجا إلى استنباط أو أعمال فكر فسنرى أن بعض الصحف تخلط بين المقالة والمقامة وتسمى الأخيرة مقالة.
ولم تكن مصر، هي البادئة ببعث المقامة في العصر الحديث فقد سبقها لبنان في التأليف الجديد على نسق المقامة على يد اليازجي والشدياق، وذلك لظروفه الخاصة مما لا مجال لذكره هنا، ولما كان الشدياق من بين الاثنين أحد الشخصيات التي وفدت على مصر وأثرت فيها، فسنتكلم عن مقاماته التي ضمنها كتاب (الساق على الساق فيما هو الفارياق)، كما سنتكلم عن كتابه نفسه عند الحديث عن الطور الثاني الذي خطته المقامة، ومؤلف الشدياق مقسم إلى أربعة كتب في كل كتاب منها وفي الفصل الثالث عشر بالذات مقامة واحدة، فعدد المقامات في كتابه هذا أربع مقامات، فالتي في الكتاب الأول عنوانها في مقامة، والثانية في مقامة مقعدة والثالثة في مقامة مقيمة والرابعة في مقامة محشية.
والحقيقة الأولى التي يجب ذكرها عن الشدياق هي أنه كان يكره السجع كرها شديدا بالرغم من أنه كان يصطنعه أحيانا وبالرغم من كتابته للمقامات «السجع للمؤلف كالرجل من خشب للماشي، فينبغي لي أن لا أتوكا عليه في جميع طرق التعبير لئلا تضيق لي مذاهبه أو يرميني في ورطة لا مناص لي منها، وقد رأيت أن كلفة السجع أشق من كلفة النظم».
وفي مرة ثانية يتحدث عن مضار السجع بقوله «إن المؤلف فيهم بينما يذكر مصيبة أحد من العباد في عقله أو امرأته أو ماله إذا به يتكلف لإيراد الفقر المسجعة والعبارات المرصعة وحشي قصته بجميع ضرورات الاستعارات والكنايات، فنرى المصاب ينتحب ويولول ويشكو ويتظلم والمؤلف يسجع ويجنس ويرصع ويوري ويستطرد.. إلخ».
إذن فهو يكتب المقامات لغرض معين يمكن توضيحه من المقامة الأولى، فيقول إنه مر عليه زمن لم يتكلف فيه السجع وخشي أن ينسى ذلك فقرر أن يختبر قريحته، ولهذا السبب نجد مقاماته معقدة تعقيدا شديدا، لأنه تعمد كتابتها على ذلك النحو تعمدا، وكل مقاماته الأربع يظهر فيها مقدرته وتمكنه من اللغة بجانب انتقاداته لغيره.
Next Page >