أرشيف

القيم الدينية وما بعد العلمانية

المصدر

على مدى خمسة أيام امتدت جلسات منتدى القيم الدينية السابع لمجموعة العشرين التي تترأسها المملكة العربية السعودية هذا العام لأول مرة مواجهة تحديات كوفيد – 19 في ظروف انعقاد هذه القمة، كانت محاور الجلسات التي انطلقت الثلاثاء الماضي، تتنوع تنوعا شاملا بين مختلف القضايا التي تمس حياة الإنسان، من ناحية الحريات والمساواة والحقوق الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.
شاركت في الجلسات قيادات ومؤسسات دينية وإنسانية وقيمية، من مختلف أنحاء العالمي، في تجمع يعد الأكبر من نوعه لأجل: «مساندة صناع السياسات في بناء السلام وتكريس مفاهيم التفاهم والحوار والتسامح، وترسيخ قيم التنوع والتعددية والتعايش في ظل المواطنة المشتركة، لكونها ركيزةً محورية من ركائز الحضارة الإنسانية من أجل تحقيق الأمن والسلام والاستقرار وازدهار العالم»، كما ذكر الأمين العام لمركز الملك عبد الله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات ورئيس اللجنة التنفيذية لمنتدى القيم الدينية لمجموعة العشرين فيصل بن معمر، ورافق الفعاليات المتعلقة بقمة مجموعة العشرين انطلاق مجموعة للقيم على هامشها لأول مرة، ووافق انعقاد المنتدى اليوم العالمي للقيم 15 أكتوبر، فأصبحت القيم كما يبدو لزمةً قوية في أجندة عمل اقتصادي سياسي عالمي كبير كقمة مجموعة العشرين.
لكن ماذا نعني بالقيم؟ يختلف ويتعدد تعريف ومفهوم القيم من شخص لآخر، ولكنها تجتمع في كونها ما يوجه سلوك الفرد الإنساني في حياته توجيها إيجابيا، وقد يصدف أن ما يكون قيمة لدى إنسان/‏‏ مجتمع/‏‏ ثقافة/‏‏ بيئة لا يكون كذلك لدى الآخر، ولكنها جميعا تصب في قالب الإنسانية ومصالحها، فالقيم السوية ترسي مبادئ العدالة والسلام والحرية والخير كحق أصيل لكل إنسان على هذه الأرض أيا كان عرقه وجنسه ومذهبه وتوجهه الفكري والديني. وحينما تجتمع كبرى المؤسسات الدينية والمذهبية من حول العالم وتقر بأن القيم هي البوصلة الأصيلة لنجاة الإنسانية في هذا العصر، فإن هذه الأديان باختلافها، وهذه المؤسسات الإنسانية والقيمة التي قد تكون لا دينية تجمع بالتالي على أن الأساس الذي انطلقت منه هو أساس إنساني يقوم على حفظ الكرامة الإنسانية وحقوقها، وأن لكل دين وفكر ذات الأحقية التي لدى الآخر مسألة الصواب والخطأ. وما دام وُجد هذا الاتفاق فمن أين إذا ظهر التطرف الديني، والتعصب العرقي والمذهبي؟ وما السبب خلف التمييز العرقي والجنسي وخطاب الكراهية السائد؟ ولماذا الفئات الأكثر ضعفا كالمرأة والأطفال هم الأكثر تعرضا للعنف وهضم الحقوق؟
إن كانت الأسئلة السابقة أُخذت من أرض الواقع، فإن كل دين ومذهب واتجاه سينكر بطبيعة الحال أن يكون متسببا في تلك القضايا اللاإنسانية التي أصبحت مع الأسف ظاهرة في كثير من أنحاء العالم، بل وتكاد تسيطر على العالم العربي والإسلامي بالذات. ولكن بالتتبع التاريخي للأديان والحضارات وما صاحبها من تغير اجتماعي واقتصادي وسياسي نلحظ بعض المظاهر التي جعلت الأديان تُوظف في سياقات لا إنسانية خارجة عن القيم التي قامت عليها ومنها:
توظيف الدين لخدمة السياسة وما يتبعه من أعمال عنف داخل المجتمع وخارجه، كالثورة الإسلامية الإيرانية، وما تبعها من سياسات غير سلمية لتزعم قيادة العالم الإسلامي، عبر تجييش الميليشيات المذهبية في عدة دول وما صاحبه من تطرف أصولي ومذهبي مضاد.
الحركات العلمانية المتطرفة التي فرضت على بعض المجتمعات إقصاء تاما للأديان من جميع مظاهر الحياة التي شكلت تطرفا دينيا مضادا في تلك المجتمعات أو خارجها، لإثبات أن الأولوية للدين كتطرف مضاد في حكم جميع تلك المظاهر، وتسبب في حركات جهادية وعمليات إرهابية لمقاومة أي تمدد للفكر العلماني اللاديني.
الحداثة المعاصرة والثورة التقنية والمعلوماتية التي تسببت لدى البعض في فوضى أخلاقية وضياع للهوية أديا لردات فعل مضادة، لتشكيل هويات دينية يغلب عليها التطرف والقمع وسيادة خطاب الكراهية.
ولحل تلك الإشكاليات المتعلقة بالأديان، لا بد من التعامل الصحيح من مسبباتها سواء هذه الأمثلة المفترضة أو غيرها. بالعودة لموضوعات منتدى القيم الدينية الذي يجمع في أغلب جلساته على أن وجود قيم إنسانية لدى الفرد يستمدها من دينه ومذهبه أو نمطه الفكري الذي تسير عليه حياته – ولو كان لا دينيا- يساعد في تحسين حياة البشرية، ويعيدها للكرامة الإنسانية التي تُجمع عليها الأديان والمذاهب كافة، وتقوم عليها في أصولها. ولن يحدث هذا إلا حينما يكون الدين شأنًا فرديا بالمقام الأول، وتصبح التعددية واحترام خيارات الآخرين وإن لم تتفق مع خياراتنا الدينية والمذهبية هي القاعدة الأساسية التي تنطلق منها جميع السياسات للدول ومحركاتها الاقتصادية والثقافية، بل إن التعليم وهو اللبنة الأولى التي تؤسس الأفراد وتوجههم في المجتمعات ينبغي أن يكون شموليا؛ لا يخلو من الدين ولكنه لا يكرسه كأولوية مطلقة تخطئ الآخر وتحاكمه وتقيمه، ويمتد للتعريف بكافة الأديان والأطياف الفكرية والعرقية وما تقوم عليه من مبادئ إنسانية وقيم مشتركة تستدعي التقدير والاحترام.
اتفاق أغلب المتحدثين في منتدى القيم الدينية لمجموعة العشرين على أهمية مشاركة الأديان والمذاهب والمؤسسات الفكرية والتعليمية في حل مشكلات العالم الحالية من تطرف وإرهاب وكراهية جندرية وعرقية عبر الحوار والمناقشة، وتبني قيم مشتركة بينهم، يؤكد ضرورة الانفتاح على الآخر وتقبله التي تحدث عنها كبار المفكرين والفلاسفة كابن رشد والتوحيدي، ويأخذنا لمرحلة ملحوظة في العالم المتقدم مما يعرف «بما بعد العلمانية» التي تحدث عنها المفكر يورغن هابرماس، بأنها مرحلة وعي للمجتمعات تتقبل التعددية الدينية كخيار في بناء الدول وتسيير أمورها، وأن يكون العقل العلماني والوعي الديني في علاقة متبادلة. ولكن حتى تصبح التعددية وتقبل الآخر واحترام اختلافه خيارا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ينبغي أولا أن نبدأ بوضع هذه الخيارات في رعاية القانون الذي يحمي الاختلاف ويكافح التطرف الديني والتمييز العرقي ويجرم خطاب الكراهية والإقصاء.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here