الفجوة بين القوة والحكمة
في هذا العصر افتقد العقل مساحته أمام العواطف..
أخذ يعيش في زاوية ضيقة أمام الكراهية والضغينة..
لو كان العقل موجوداً في الساحة لما عرفنا الحروب المدمرة،
ولا نترات الأمونيوم المخزنة،
ولا الأسلحة التي تقضي على البشرية،
ولا حتى الفيروسات المعلّبة..
ولا كثرة الأيدي الخبيثة التي تسرح وتمرح هنا وهناك..
لو كان العقل موجوداً في هذا العصر،
لما عايشنا الملايين من البشر المهجرة من ديارها،
ولما عرفنا الملايين من الجوعى التي تبحث عن لقمة عيش أو خرقة تسترها..
لو عرفنا العقل لبتنا في بيوتنا آمنين مطمئنين،
لقد افتقدت معظم الدول العقل وحلت الكراهية مكانه..
قال ماري شابيرو: إن هناك فجوة بين القوة والثقافة، فجوة خطيرة بين القوة الصناعية (1) التي ظهرت في المعسكرين الغربي والشرقي، وبين الضوابط العقلية واستحالة ضبط القوة الجامحة التي تؤدي إلى ما يدمر البشرية من لدن حكمة مكبلة لا تستطيع أن تفعل شيئاً. إن هذه القوة قد ركضت سريعاً سريعاً من خلال تطورها المذهل فبقيت الحكمة في ذهول إن كانت موجودة، إلا أن الواقع يشعرنا أنها قد تعبت وهي تركض وراء هذه المخترعات المتسارعة، وربما لأن التعقيدات قد تكاثرت أمامها فأصابتها بخلل يتماشى مع تعب الركض.
لقد ظهر ذلك واضحاً، إذ إن فشل الحكمة كان عالمياً(٢) ، لأن من ظهر وهو يحاول أن يتوشح بالحكمة والعقلانية أصبح متهماً، فالأشرار قد انطلقوا في رؤاهم وأفكارهم مع انطلاقة مدمرات البشرية، فغلبت أفكارهم أفكار المتوشح بالعقلانية.
العالم في هذا العصر يعيش في قلق بسبب افتقاد العقلانية أمام تطور قد زاد عن حده، وإلاّ فما هذا السعي بين دول العالم لامتلاك الأسلحة المدمرة والتي لو وقعت بيد الأشرار فاقدي الحكمة لدمّرت العالم؛ والفيروسات المخزنة، ونترات الأمونيوم، والصواريخ العابرة للقارات، والقنابل الغازية، ليست عنا ببعيد.
إن فيروس كوفيد 19 وانفجار بيروت، والصواريخ التي تطلق هنا وهناك والدبابات التي تدوس البشر، والمدافع التي تدك المدن، كلها فيها دلائل على اختفاء ألوان العقلانية، وتسيد أيادي الشر وأصحاب القلوب الحاقدة الفاسدة على مجريات الأمور.
إننا ونحن نعيش هذا التطور الذي لم يحصل مثله في القرون السابقة، نعيش أيضاً فشل الحكمة الذي كان في الماضي فشلاً محلياً وبالإمكان استدراكه وإصلاحه، ولكنه اليوم سيعم أرجاء العالم وعندئذ فإن النهوض بها سيكون محفوفاً بالمشكلات والمخاوف الناشئة.(٣)
إن التطور الزائد في المخترعات قد أدى إلى ظهور نوايا سيئة تحاول أن تتخلص من بعض ما تختزنه المستودعات، فتفجرها هنا وهناك.
العلم سلاح ذو حدين:
حد يقضي على الفقر والمرض والجهل،
وحد يقضي على البشرية..
إن استخدام هذا السلاح يعتمد على حكمة من يحملونه في أيديهم.(٤)
إن الأساس هو إيجاد الحكمة اللازمة لاستخدام سلاح العلم، قال الفيلسوف إيمانويل كانت: (العلم معرفة منظمة، والحكمة حياة منظمة…) (٥)
وقال إيزاك سيموف: (إن الجانب الأكثر إثارة للحزن الآن هو أن العلم يراكم المعرفة أكثر مما يكتب المجتمع الحكمة…) (٦)وقال المهاتما غاندي (٧): إن من جذور العنف: الثروة بلا عمل
والمتعة بلا ضمير
والمعرفة بلا فضيلة
والتجارة بلا أخلاق
والعلم بلا إنسانية
العالم قرية، وفشله ونجاحه بإرادة مسبب الأسباب، خالق كل شيء ومليكه قال تعالى في محكم كتابه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً..) الإسراء آية 16
—————-
المراجع:
(1) انظر: نظرات في الثقافة، ماري شابيرو، ترجمة الدكتور محمد علي العريان، تصدير الدكتور عبدالرحمن زكي، دار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي وشركاه)، ط1، 1961م، ص 64
(2) السابق، الصفحة نفسها
(3) السابق، ص 64 – 65
(4) انظر: فيزياء المستقبل. ميتشيو كاكو، ترجمة طارق راشد عليان، كتاب المجلة العربية رقم 63، ط1، 1434هـ، ص679.
(5) السابق، ص680
(6) السابق، ص 681
(7) السابق، ص 714
بقلم: د. عبدالله ثقفان – الرياض