العشق عن بعد
العمل عن بعد، والدراسة كذلك، والسواليف كلها وأحاديثنا صارت عن بعد، ومجازاً، أقول أحاديث لأن معظم حواراتنا سواء بالواتس أو الفيس أو باقي عائلة التواصل أصبحت كتابة أو رموزا كرتونية.
وإذا تفشخرنا تكلمنا مع بعضنا وإذا زدنا الفشخرة حبتين تكلمنا وجها لوجه عن طريق الفيس تايم، وعلى ذكر الاتصال بهذه الطريقة ـ أي بالكاميرا ـ فالحقيقة أني أستنكر وأندد وأشجب كل من يفعل ذلك دون أن يستأذن مقدماً، فالبعض «يخش» عليك كاميرا وكأنه يفتح باب بيته، فالرسول عليه الصلاة والسلام، طلب من الرجل، إذا رجع من السفر فجأة ألا يدخل على أهله إلا إذا أخبرهم، أما هؤلاء النفر من الناس فلا احم ولا دستور، هم يقتحمون حياة غيرهم عيني عينك.
طبعا الاستنكار والشجب هذا تعلمته من دول العالم، فهو بضاعة رخيصة في زمن تتنمر فيه تركيا، وتتشيطن فيه إيران، وهما يرتجفان خوفا من الشجب والتنديد، خاصة إذا كان بأقسى العبارات.
وفِي السياسة هناك الحوار عن بعد والشيء المضحك أن يكون الطرفان في فندق واحد أو مقر واحد، والوسيط زي المكوك كما يحصل عندما يتغاضب الزوجان مع بعضهما، والله يعين الوسيط وركبه على الهرولة ما بين الطرفين، كما يقول المثل «ما ينوب المفرع إلا شق ثوبه».
حركات قرعاء، يا ناس اجلسوا مع بعض ومش ضروري تتفقوا ولا تعترفوا ببعض بالطقاق أيش المشكلة.
وعلى مستوى العمل فكل الإدارات فتحت أبوابها عن قرب عدا التعليم فقد زاد جولة ثانية عن بعد، والحقيقة أن الاحتياط واجب، ولكن لعل في المرحلة اللاحقة تكون هناك خطة تتماشى حسب الظروف الصحية في حينه، لإعادة الطلبة للفصول، فكثير من الدراسات تقول إنه لم يثبت أن فتح المدارس مع الاحتراز طبعا كان سبباً مهما في انتقال الفيروس، إضافة إلى سلبيات الدراسة عن بعد.
ولعل اللقاح يكون قد توفر «وترتاح القرعا من كد الأمشاط»، على قول المثل الشعبي.
أما العشق عن بعد، وقد يكون البعد مجازيا كما حال الشاعر بشار بن برد فالبعد هنا هو لعدم رؤيته لمن وصفها عندما قال: والأذن تعشق قبل العين أحيانا، فالشاعر بشار بن برد أصبح ضريرا في طفولته، وكان دميما وكان من هواة الطرب والأنس والاستماع إلى الجواري، وهن يغنين، وقد قال في تلك القصيدة:
إن العيون التي في طرفها حور *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا.
وهذا ييت شعر لجرير استعاره الشاعر:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة *** والإذن تعشق قبل العين أحيانا.
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم *** الإذن كالعين تؤتي القلب ما كانا.
إلى أن يقول:
لو كنت أعلم أن الحب يقتلني *** أعددت لي قبل أن ألقاك أكفانا
لا يقتل الله من دامت مودته *** والله يقتل أهل الغدر أحيانا.
كما قال في قصيدة أخرى:
يزهدني في حب عبدة معشر *** قلوبهم فيها مخالفة قلبي.
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى *** فبالقرب لا بالعين يبصر ذو الحب.
فما تبصر العينان في موضع الهوى *** ولا تسمع الأذنان إلا من القلب.
وإذا خرجنا من قصص العشق وخاصة عن بعد، فلا يسلم الأمر أن نمر على من يصف لغيره فتاة عن بعد بأنها جميلة كالقمر ـ الذي رَآه عن بعد ـ ولو رَآه عن قرب ربما غير رأيه.
وعلى ذكر تشبيه الجميلة بالقمر، أيضاً هناك من يشبهها بالغزال مثل ما جاء في أبيات للشاعر، الذي اشتهر بلقب الشاعر الظريف، وهو محمد بن سليمان التلمساني شاعر ولد في القاهرة في عهد المماليك، فقد قال:
مثل الغزال نظرة ولفتة *** من رَآه مقبلاً ولا افتتن
أحسن خلق الله وجهاً وفماً *** إن لم يكن أحق بالحسن فمن
في جسمه وصدغه وشكله *** الماء والخضرة والوجه الحسن
وبناء على هذه السمعة للغزال، يقول لك الأهل خطبنا لك فتاة جميلة كما الغزال، وتفرح، وعندما يحين وقت اللقاء ترى أمامك بالفعل فتاة الخالق الناطق الغزال الذي تراه في السفاري.. الحقيقة أنك ستهرب وتقول بلا غزال بلا قمر، ضحك علينا الشعراء، ولا ينفع الكلام.
Next Page >