العجز الديمقراطي وإشكالات الحاضر
د. علي محمد فخرو
تظهر الكثير من الدراسات في بلدان الغرب الديمقراطية أنه كلما تراجعت مؤسسات ومسيرة الديمقراطية في تلك البلدان كلما ازدادت وتراكمت مشاكلهم الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية على المستويين الوطني، والدولي.
وقد بدا واضحاً، ومقلقاً للكثير من مفكرّيهم أن الثقافة النيوليبرالية الرأسمالية التي مجّدت الفردانية المتطرّفة المنغلقة على الذات، والمتعة، والاستهلاك النّهم ، قد قادت إلى هبوط حاد في نسبة المواطنين المشاركين في الانتخابات. وأن استبعاد كلمات وتعابير السياسة الكلاسيكية، من مثل المساواة، والعدالة الاجتماعية، والنضّال المدني، وحقوق الفقراء والمهمّشين، وغيرها، في مجالات السياسة والإعلام والتعليم على الأخص، وإحلال تعابير رأسمالية السوق، من مثل المنافسة والاستهلاك المظهري العبثي، والمكانة المالية، وتعابير الموضة، والإعلان، والعيب في الفشل، وغيرها، قد أزاح السياسة، ومعها الالتزامات نحو المجتمع، والناس، وأحلّ مكانها الاقتصاد كحاكم، ومهيمن على كل مجالات الحياة. وأن صعود اليمين الشعبوي المتطرف في أوروبا، وأمريكا، سينقل الديمقراطية من كونها وسيلة أخذ وعطاء وحلول تأخذ في الاعتبار مصالح كل فئات المجتمع، إلى كونها وسيلة استقطابات حادّة لا تتورّع عن الاستعمالات الانتهازية للتنوع الديني، أو العرقي، أو الثقافي، في صراعات مميتة، كما هو الحال في المشهد الأمريكي الانتخابي الحالي.
من هنا، فإن المفكرين في الغرب ماعادوا يتكلمون عن أمراض ومثالب الديمقراطية المعروفة، وإنما يتكلمون بصوت عال وجِل عن موت الديمقراطية في الغرب.
فإذا كان التراجع الديمقراطي في البلدان الديمقراطية يهدد بانفجار المشاكل والصراعات في تلك البلدان، فإن المشهد في الوطن العربي يظهر صورة أخرى للمشهد نفسه: غياب، وعجز الديمقراطية في بلاد العرب، أحد أهم أسباب التّراجع المتسارع في كل مناحي الحياة العربية. فقرارات الزجّ بالنفس في الصراعات الداخلية في هذا القطر العربي، أو ذاك، أو معاداة، ومحاولة إسقاط هذا الرئيس العربي، أو ذاك، أو دعم هذه الجماعة الجهادية العنيفة بالسلاح والمال والتدريب، أو تلك، أو الانكفاء نحو الوطنية القطرية الضيّقة، والابتعاد عن القومي المشترك، أو دعم المؤسسات العربية القائمة، أو إضعافها، أو الأمر بالدخول الإعلامي القطري في مماحكات وولائم شتم بذيء، وإيقاظ العداوات المصطنعة بين هذا الشعب العربي، أو ذاك، وإشعال النيران الجنونية في وسائل التواصل الاجتماعي، أو دعوة الاستعمار للعودة إلى أرض العرب. بمعنى آخر يتمّ كل ذلك، وأكثر من ذلك، في أمور من مثل الاقتصاد، والمديونيات، والثقافة، والتعليم، والصحة، وتوزيع الثروة، وكل مناحي حياة المواطن المهمّش، بسبب غياب المؤسسات الديمقراطية المراقبة والمحاسبة والمعاقبة ، أي العاجزة المشلولة.
وبالطبع، فإن غياب المؤسسات الديمقراطية في بلاد العرب سببه ظاهرة العجز الديمقراطي في هذا الوطن العربي كلّه، بصور متفاوتة.
من هنا الأهمية الكبرى لدراسة خلفيات وأسباب ذلك العجز، والتوجّه لمعالجة مشكلة العجز، والتغلُب عليها، قبل التغنّي بميزات الديمقراطية، وإظهار محاسنها لمجتمعات لم تذق طعمها منذ قرون.
وبالنسبة لبعض الأدبيات العربية في الشأن الديمقراطي أشار الكثيرون إلى الأسباب التالية وراء ذلك العجز الديمقراطي:
*أولاً: وجود نفوذ استعماري دولي، وإقليمي، راغب في حكم بعض بلدان العرب من قبل أنظمة غير خاضعة لمجتمع مدني فاعل.
هذا النفوذ كان، ولا يزال داعماً لأنظمة غير ديمقراطية طالما أنها لا تتعارض مع مصالحه الاقتصادية، والأمنية.
يخطئ من يعتقد أن معركة مقارعة الاستعمار انتهت باستقلال البلاد العربية. فالاستعمار لا يزال موجوداً، والمعركة ضدّه، ودحره، لا تزال مستمرة.
*ثانياً: إصرار بعض الدولة العربية الحديثة على أن تبقى دولة ريعية في الاقتصاد، وإجراء مقايضة بين توزيع الثروة الريعية واستعمال جزء منها في تقديم الخدمات.
هنا أيضاً، ما لم تنجح قوى المجتمعات المدنية في تغيير طبيعة الدولة العربية الريعية لتصبح دولة اقتصاد إنتاجي، فإن الديمقراطية لن تأتي، فالتاريخ، والعادات، والسلوكات، التي بناها ذلك التاريخ ستكون عقبات أمام أيّ تحوّل ديمقراطي.
ما سيجعل بناء الديمقراطية في بلاد العرب أصعب من ذي قبل بسبب تغيّر المشهد الديمقراطي في الديمقراطيات العريقة. وسيأخذ أعداء الديمقراطية في بلاد العرب ذلك المشهد كدليل على فشل الديمقراطية، وبالتالي عدم الحاجة للديمقراطية في بلاد العرب.
dramfakhro@gmail.com