الحنين إلى الإمبراطورية
تأليف:حقان يافوز
ترجمة وعرض:نضال إبراهيم
على الرغم من أن تركيا فقدت إمبراطوريتها منذ قرن، فإن الحنين إليها عاد ليصبح في صلب سياسة أردوغان التي تمزج بين الأسلمة والقومية؛ لدعم سلطته؛ حيث يقدم صورة لتركيا على أنها ضحية للقوى الكبرى، ومحاصرة بأعداء في الداخل والخارج، وأنه آن الأوان لإعادة أمجاد الأجداد. يناقش هذا الكتاب أسباب شدة الحنين إلى الماضي، وكيفية ظهور السياسة العثمانية الجديدة التي أضرت بالشعب التركي، وبعلاقات تركيا الدولية.
يستكشف حقان يافوز لماذا وكيف أعادت شرائح معينة من المجتمع التركي بشكل انتقائي الإمبراطورية العثمانية إلى الوعي العام؟ ويتتبع كيف تغيرت ذاكرة الفترة العثمانية؛ من خلال معاينة الأدب التركي، وكتب التاريخ السائدة ومنتجات ثقافية أخرى من الأربعينات إلى القرن الحادي والعشرين لتوضيح التحول. ويمضي يافوز في شرح كيف أن الفاعلين السياسيين الرئيسيين، بمن في ذلك الرئيس أردوغان، يستخدمون مفهوم الإمبراطورية؛ لصياغة مفاهيم مميزة عن القومية والإسلام والعثمانية التي تستغل الحنين القومي. ولعب أردوغان على مسألة أن الماضي العثماني راسخ في القيم الإسلامية المحافظة المعاصرة، فحاول الجمع بين هذه الذكريات والقيم، ويقدم صورة لتركيا ضحيةً للقوى الكبرى، ومحاصرة بأعداء داخلياً وخارجياً.
التخلي عن المشروع الأوروبي
يبحث هذا الكتاب في الأصول الاجتماعية والسياسية للحنين المحاصر والحزين إلى الإمبراطورية العثمانية بين العديد من السكان في المنطقة الأوسع. لا يتناول الكتاب كيف تطورت العثمانية، ولكن بدلاً من ذلك كيف يجب أن تتطور؛ بسبب التحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمع التركي، وردود الفعل من العالم الخارجي، وخاصة من الاتحاد الأوروبي. على وجه الخصوص، بعد رفض الاتحاد الأوروبي طلب تركيا الحصول على العضوية الكاملة، أصبح الماضي العثماني، وليس المستقبل الأوروبي، أساس الهوية الوطنية.
يسعى هذا الكتاب للإجابة عن عدة أسئلة مترابطة: ما العثمانية الجديدة بشكل عام؟ وما أهمية المصطلحات المختلفة باستخدام متغير من اللغة العثمانية؟ وما الأغراض التي تخدمها؟ من الذي وضع المصطلح؟ ولأي غرض تم وضعه؟ ما الأصول الاجتماعية والسياسية للحنين الحالي إلى الماضي العثماني؟ كيف أثر تصور الحنين إلى الماضي في تطور العثمانية الجديدة وشكله؟ ما السمات الرئيسية للعثمانية الجديدة؟ ما الاختلافات والتشابهات بين العثمانية في القرن التاسع عشر والخطابات العثمانية الجديدة اليوم؟
يقول الكاتب: «العثمانية الجديدة، كشكل من أشكال الهوية وأيديولوجية في أيدي الأوساط الثقافية والسياسية للنخب والجماهير المحافظة، متجذرة في المشاعر التاريخية، وترتبط بلا شك بالعواطف. وتم دمج التاريخ الإسلامي والعثماني؛ من خلال الذاكرة وتداخلهما. أخيراً، تربط العثمانية الجديدة الهوية بالكرامة الوطنية؛ لأنها تقدم قانوناً للغة الأخلاقية بشأن تقرير المصير. ومن المثير للاهتمام، أن بعض المثقفين يعتقدون أنه من خلال خطاب العثمانية الجديدة، يمكن أن تتحول تركيا إلى كيان بنظام حكم متعدد الأعراق والثقافات مع طبيعة أكثر تسامحاً. على سبيل المثال، عندما طلبتُ من أحد السياسيين التوسع في الحديث عما يعنيه، قال: تركيا بحاجة إلى التقدم. هناك طريقتان للقيام بذلك أولاً اتخاذ العصر الذهبي للعثمانيين كنقطة مرجعية، أو أخذ الحضارات الناجحة الأخرى (الغربية على سبيل المثال) كنماذج يحتذى بها. فعل أتاتورك الأمر الأخير، وحاول أوزال أن يجرب كليهما من خلال السعي إلى التوفيق بين الطابع الأوروبي للعثمانيين، لكن أردوغان يسعى إلى استعادة عظمة الماضي العثماني تحت قيادته الشخصية فقط».
تكوين ذاكرة بديلة
في الفصل الأول، يحلل الكاتب العثمانية الجمهورية؛ من خلال رسم المعاني المعقدة والمتداخلة للعثمانية، ومن ثم يتتبع كيفية تحديث العثمانية لتتوافق مع الظروف الحالية. يتلخص الجدل حول العثمانية والعثمانية الجديدة في محادثة حول الهوية والبحث عن رابطة جديدة من التماسك الاجتماعي؛ لتوفير وجهة للمستقبل.
يحدّد ويدرس الكاتب في الفصل الثاني، الظروف الهيكلية التي تم فيها الاحتفاظ بذكرى الإمبراطورية العثمانية، وإعادة بنائها كرواية مضادة لانتقاد السياسات العلمانية للنخبة الكمالية. ويعاين ستة عوامل اجتماعية وسياسية في إعادة تكوين ذاكرة بديلة للماضي العثماني. هذه العوامل؛ هي: 1) التركيبة الديموغرافية لتركيا كمجموعة من اللاجئين الذين تم تطهيرهم عرقياً من منازل أجدادهم في البلقان والقوقاز؛ 2) مشروع التغريب لتأسيس تركيا؛ كي تصبح دولة قومية أوروبية من خلال قمع إرث الدولة العثمانية؛ 3) عملية الدمقرطة؛ (أي تعبئة الجماهير للانتقال إلى المجالات السياسية والسماح بتعدد الهويات لإعادة تعريف هوية الدولة وسياساتها)؛ 4) توسيع المجال العام أمام نشر الصحف والمجلات والوسائط الرقمية التي يتم فيها مناقشة جميع أشكال الهويات والمواضيع المحظورة في السابق؛ 5) إدخال قوى السوق بما يتماشى مع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية لتورجوت أوزال وظهور برجوازية الأناضول الجديدة؛ 6) الانتقال من التاريخ إلى الذاكرة، فقد سمحت مساحات الفرص الجديدة في قطاع الإعلام والتعليم بإعادة التفاوض، وبناء ذاكرة جديدة للماضي.
يقدم الفصل الثالث الأدب التركي كموقع للذاكرة المضادة؛ حيث يمكن احتضان الهوية المضادة. في هذا الفصل يستكشف المؤلف الروابط بين التاريخ والأدب، ويتعامل مع الأدب ليس كمجرد أداة لانتقال ذكريات الماضي، ولكن الأهم من ذلك، كموقع لتخزين الذكريات وإعادة تكوينها. في حين أن كتّاب الروايات والشعر معروفون بإبداعهم، يميل المؤرخون إلى أن يكونوا أقل إبداعاً عندما يقتصرون على المصادر المكتوبة والشفوية في بناء قصصهم. في حالة التاريخ العثماني، تحولت الروايات والأشعار الجمهورية المبكرة إلى مصدر للذاكرة الجماعية، وقدمت هذه النصوص أساساً لإعادة تصور الذات على أنها عثمانية / مسلمة وتركية في نفس الوقت.
إضافة إلى هؤلاء الكتّاب، قدمت كتابات النقشبنديين وغيرها من الطرق الصوفية الجديدة مساهمات مهمة في إعادة بناء الإرث العثماني باعتباره مضاداً للهوية التركية الحديثة التي أسستها الإصلاحات الكمالية، التي قمعت عن عمد ذكرى الإمبراطورية العثمانية. يرى الكاتب أن كيفية بناء الماضي وتقديمه إلى الأمة؛ تعدّ واحدة من أهم المناقشات التي تجري في تركيا. فعملية إعادة إنتاج الماضي للمجتمع التركي المعاصر لا تنتهي، ومفتوحة على نزاع مستمر، ويمكننا أن نتوقع أنها ستستمر في التغيير مع الظروف الجديدة. ويتساءل الكاتب: كيف صاغ الكتاب والصحفيون والشعراء والمؤرخون الماضي العثماني في أيديولوجية جديدة؟ كيف استقبل الجمهور التركي هذه الجهود؟
إعادة بناء العثمانية الجديدة
يحلل الكاتب في الفصل الرابع، تشكيل العثمانية الجديدة كمفهوم وفكرة وهوية واستراتيجية لعالم ما بعد الحرب الباردة في ظل السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة لتورجوت أوزال؛ حيث حدثت في عهده أولى التمزقات الكبرى من عملية التجانس؛ لبناء الأمة الكمالية؛ وذلك من خلال التركيز على المنعطف الحرج في أوائل الثمانينات من القرن الماضي فيما يتعلق بنهاية الحرب الباردة والسياسات الاقتصادية الجديدة لأوزال.
ويعاين الكاتب كيف ساعد هذا المنعطف، النخبة في إعادة بناء العثمانية الجديدة كحل لتحديات الثمانينات، قائلاً: «إن التطهير العرقي للمسلمين البلغار في عام 1989، وحملة الترحيل والإبادة الجماعية ضد مسلمي البوسنة، وترحيل «الأذربيجانيين» الأتراك من كاراباخ، أجبر الجماهير على مواجهة ذكرياتهم المكبوتة في البلقان والقوقاز. من خلال إدخال أوزال سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة، عن غير قصد، خلق المساحة اللازمة لبناء هوية مضادة وأيديولوجية. لعب تشكيل برجوازية الأناضول الجديدة ودعمها لروايات التاريخ البديلة؛ دوراً مهماً في إعادة بناء الخطاب العثماني الجديد».
في الفصل الخامس، يتناول المؤلف الطرق الصوفية النقشبندية ودورها في إعادة بناء الهوية السياسية الإسلامية وذكريات الإمبراطورية العثمانية. ثم يستكشف الجدل الدائر حول سياسات الهوية في ظل أحزاب مثل حزب الرفاه وحزب الفضيلة بين عامي 1994 و2001. انتصار الانتخابات المحلية لعام 1994 أدى إلى سيطرة حزب الرفاه على جميع البلديات تقريباً. استخدمت هذه البلديات مواردها؛ لانتقاد المشروع الكمالي من خلال الترويج للتاريخ والثقافة والممارسات العثمانية كحضارة بديلة. بدلاً من الترويج المباشر للإسلاموية؛ بسبب القيود القانونية، فضلوا الترويج للعثمانية على أنها هوية بديلة وأيديولوجية لانتقاد الكمالية.
ويركز الكاتب في الفصل السادس على المصدرين الرئيسيين لهوية أردوغان السياسية: الإمبراطورية العثمانية، وخاصة في عهد عبد الحميد الثاني والإسلام. بعد معاينة دور هذين العاملين، يوضح فهم أردوغان للأمة والشرعية والسياسة، قائلاً: «إن الحد الفاصل بين الإسلام والتاريخ العثماني ليس فقط ضعيفاً، ولكن الأخير يشكل أيضاً فهمه لدور الإسلام فيما يتعلق بالدولة والمجتمع». يشير هذا الفصل إلى أن العمليتين المزدوجتين للأسلمة والعثمنة في حالة تركيا هما عمليتان شموليتان؛ تعزز كل واحدة منهما الأخرى.
يقول الكاتب: «وبالتالي، من خلال تأكيد الذكريات العثمانية، هناك نية لأسلمة المجتمع والدولة في نفس الوقت؛ وذلك من خلال تفريغ الآداب والإجراءات العثمانية الجديدة التي أعيد بناؤها عبر التخطيط الحضري، بدءاً من المطبخ إلى الفنون الجميلة»، ويوضح كيف تم إحضار الماضي إلى الحاضر؛ للتعامل مع الأسئلة المتعلقة بالمستقبل، ويعلق على ذلك بالقول: «بينما يمر بلد ما بتحول اجتماعي واقتصادي وسياسي كبير، يصبح من المرجح أن يتبنى إعادة قراءة تاريخية للماضي كوسيلة استراتيجية للتعامل مع التحديات المجتمعية الجديدة. بالاعتماد على نجيب فاضل، الشخصية الفكرية الأكثر تأثيراً على قيادة حزب العدالة والتنمية، يدافع أردوغان عن استعادة القيم الإسلامية التي تؤكد النظام والأسرة والمجتمع. تدعم النخب الثقافية والاقتصادية الجديدة في تركيا رؤية أردوغان للعثمانية الجديدة كأسلوب حياة يتناسب بشكل جيد مع النظرة الإسلامية الأوسع للعالم، ويساعدهم في المحافظة على مناصبهم في السلطة».
أوهام أردوغان
كأيديولوجية، تُبنى العثمانية الجديدة على الإحساس بالماضي المتخيل، وتعطي الناس مجموعة من المواقف وبرنامج العمل في إعادة هيكلة المجتمع والدولة، لا سيما بالنظر إلى دور الدين في كليهما. والعثمانية الجديدة لأردوغان، على سبيل المثال، لا تقتصر على تبرير نظام حكمه الاستبدادي الذي يشبه السلطان فحسب؛ بل إنها تسعى أيضاً إلى أسلمة المجتمع من جديد. فالعثمانية الجديدة هذه تعني العودة إلى أنماط العلاقات الإنسانية المستمدة من الإسلام والمتأصلة في التجربة العثمانية. يكمن جوهر هذه السلوكات والممارسات في الشعور بالانتماء إلى إمبراطورية عثمانية إسلامية مستقلة صاعدة. وكونك مسلماً متديناً، وتحتفي بعظمة الماضي العثماني، وتسعى إلى جعل تركيا عظيمة مرة أخرى هي ثلاثة جوانب حاسمة في الفهم المحافظ الحالي للعثمانية. تتعامل العثمانية الجديدة مع قضية الهوية: من هو الشعب التركي؟ وكيف يجب أن يتصرف تجاه الدولة والأمة والآخرين الذين لا يشاركونهم نفس رؤية الماضي؟ أولئك الذين لا يبدون شعوراً بالانتماء ويرفضون تعريف أنفسهم وفق الممارسات العثمانية / الإسلامية يُنظر إليهم على أنهم «آخرون»، أو، في بعض السياقات، حتى أعداء.
يعتقد المثقفون المحافظون في تركيا أن تركيا هي الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية، والموطن الأخير لخلافة الإسلام السني، وبالتالي فهي تتحمل مسؤولية دينية وتاريخية؛ لحماية وقيادة المسلمين السنة… لكن على يد أردوغان، تحول الجدل حول الماضي العثماني إلى أداة لخلق حكم استبدادي يحارب بها خصومه من السياسيين، وخلق توترات سياسية في الداخل التركي الذي يشهد أكبر الانقسامات، كما زج بالمعارضين في السجون مثل المنافس الرئاسي الحقوقي الكردي صلاح الدين دمرتاش، وفرض سياسة اللون الواحد على المؤسسات الإعلامية، وقمع الحريات الدينية والقومية للأقليات في تركيا، واستغلال النزاعات في المنطقة العربية، واستخدام المنظمات المتطرفة؛ لتحقيق أهدافه.. محاولات أردوغان في استعادة أمجاد العثمانية هي محض أوهام في عصر يؤمن بالمواطنة والتعدد والتسامح والتنوع والازدهار الاقتصادي أساساً للحكم.
نبذة عن المؤلف
** حقان يافوز أستاذ العلوم السياسية بجامعة يوتا في الولايات المنتحدة. وقد أنتج مجموعة من الأعمال التي تتناول انهيار الإمبراطورية العثمانية، وأنماط بناء الدولة القومية، والعلمانية، والصراع العرقي، والشبكات الإسلامية العابرة للحدود الوطنية، والمجتمع المدني. من بين مؤلفاته «انقلاب 15 يوليو في تركيا»، «الهوية السياسية الإسلامية في تركيا» (أكسفورد)، و«العلمانية والديمقراطية الإسلامية في تركيا»، وغيرها.