تقارير

الحرية والديمقراطية في لبنان

المصدر

د. نسيم الخوري

أرغب بكلمتين، ولو بالعودة إلى جنين الديمقراطية والحريّة في رحم اليونان، مرافقاً النائب فيصل رشيد كرامي والقرّاء، قاصداً تجليس الفهم؛ بل الانتباه للشطط الناتيء في فهم المصطلحين وممارستهما، بعدما أعلن، شمالي لبنان وعاصمته طرابلس منطقة مفتوحة على تركيا التي تطوّل أياديها في الاتّجاهات كلّها وفيها اليونان؛ ابنة الإغريق والفلسفة والفكر:

وصلت أسبارطة القديمة أيّها الفيصل إلى حضارة ناصعة بين 1650-1500 ق.م. قبل أن تنهار في عام 1450 ق.م؛ إذ غطس اليونانيون في الظلمات قروناً أربع، وأصبحت بلادهم مرتعاً لمجموعات من المدن المتناحرة التي جبلت بالصراعات الدموية والحروب قبل أن تخرج مجدداً إلى السياسة Politiké باليونانية، ومعناها إدارة شؤون الناس وأعمالهم. واشتق المصطلح من اسم المدينة Polis لتعمم فكرة الPolitique في اللغات والتجارب الغربية، ومنه جاءت كلمة البوليس المستعملة في مدن العالم اليوم؛ إشارة الى الشرطة المظهر العملي لمعنى السلطة.

لقد غرقت بلاد اليونان في تاريخها الملكي الطويل؛ ومنها الملكية المطلقة والملكية الدستورية. ثمّ توشّح التاريخ بظاهرة تنحية الملوك والزعماء التقليديين عن سلطاتهم العسكرية والسياسية مع الاحتفاظ بدورهم الديني؛ لتؤول السلطة إلى مالكي الأراضي والمتمولين الذين فرضوا على المدن نوعاً من الأنظمة الأوليغارشية؛ ومعناها ممارسة السلطة من قبل عدد محدود من الأفراد والعائلات الميسورة، وعدم إشراك الآخرين بها.

هكذا ولّدت اسبارطة مجلساً قوامه 30 يونانياً ينتخبون من بين المواطنين الذين هم دون الستين؛ لإدارة الحكم. تفككت السلطات العفنة، وشاعت الجدلية بالحوارية؛ الشكل الديمقراطي الذي شاع في اليونان في القرن 16 ق. م. القائم على مبدأي الحرية والمساواة، والاعتراف بالآخر. وغدت أثينا مهد المؤسسات الديمقراطية عرفت بالEcclesia الكلمة التي منها اشتقت منها كلمة Eglise؛ أي الكنيسة عند ظهور المسيحية.

لم ينم لبنان وشماله بعدما حطّ فيصل كرامي في إسطنبول معلناً فتح المنطقة حضناً لأردوغان. هناك من علّق ب«المحافظة على ورقة التوت» وآخرون بالمثل الشعبي: «اللي استحوا ماتوا». ولا أظنّ أن ابن كرامي يقبل هذا.

لطالما نشرنا أنّ مشكلة لبنان الحقيقية؛ هي في تلك الهويّة، وكأنه بلد بلا هوية، أو بلد ليس له أي شكل أو حضور أو تاريخ أو مستقبل، إلا فيما يأتيه من الخارج كلّ خارج وأي خارج؟!، أو كأنّ لبنان هو وطن مجوّف لا داخل فيه سوى الطائفية التي تستلزم الكلام دوماً عن الأقليّات؛ لأنّها تدمغ السياسات والاجتماعات والشاشات بالاختلاف والفروق والتمايز وتبادل الاضطهاد والرعاية. ويصبح التهميش والاستئثار والذميّة والغبن والهيمنة لوازم جاهزة في الأحاديث والزيارات والمواقف الطافية على سطح الكلام، والسلوك اللبناني الكثير والعجيب والغريب والذي تعلقت بجذوره عند زوال الأمان بين المتكلمين من أهل السياسة مسائل أخرى مثل: التقسيم والفيدرالية والازدواجية والشتائم والسباب، وكلّ ذلك باسم الديمقراطية، الكلمة السخيفة عندنا والمستعارة المغلّفة بمقاصدها الطائفية التي تفضي إلى الحروب المتجددة أو المتناسلة والهجرة والتهجير، وبيع لبنان مقاطعات وتحالفات وردود فعل مفاجئة لا يمكن إدراجها سوى لضمان حفّات ذقون من ورثوا زعامات العثماني، وقد كان يوزّعها عطايا على قلّةٍ مستمرّة كان يفترض إعلان العصيان المدني، واتّهامها بالخيانة العظمى، وسوق رموزها إلى المحاكم الشعبية لو كان هناك شعب يغرزهويته بأرضه ويسقيها بدمه.

لم تعد الديمقراطية في لبنان، مصطلحاً مستقلاًّ، يمكن استعماله، في الأحاديث والنصوص، من دون صفات تفسّره، مثل الديمقراطية المستوردة والديمقراطية المسلّحة أو ديمقراطية الطوائف، وآخرها الديمقراطية التوافقية التي نسفت المفهوم عبر الاجتهادات المشوّهة أو بالتكاذب والتحاصص وتبادل المنافع وغيرها من الصفات الكثيرة التي أفقدت المصطلح معانيه الحقيقية ومضامينه التاريخية الأصيلة.

ينتج عن هذه الاستعمالات والخفّة غير الوطنيّة خلطاً بائساً للديمقراطية كمفهوم على ارتباط بالحرية والقوة والسلطة والحق والسيادة والاستقلال. ويجد الباحث اللبناني الذي يعمل على تصفية تلك المصطلحات وتفصيلها وتنشيفها تحت شمس التاريخ أسير كتاب نقولا ميكافللي في كتابه «الأمير» الذي ما زال بعض السياسيين يضعونه تحت وسائدهم؛ حفاظاً على تركاتهم الهزيلة. أوصى ميكافلّلي أميره خلط الدين بالسياسة كمفصل ضامن وحافظ للسلطات العائلية الموروثة عبر إيقاظ العصبيات الدفينة وتسخيرها لأغراض دنيوية لا تمتّ بصلات محترمة لا للدين ولا للمذاهب ولا للأخلاق التي جاءت بها الكتب السماوية التوحيدية.

يتجوّف مصطلح الديمقراطية نهائياً في لبنان، إذن، بصفته ساحة الخلط بين الدين والطائفة والذهاب باقتطاع منطقة جغرافية إلى ما شاء حفيد «الزعامة» من دول محيطة بنا أو بعيدة عنا بالجغرافيا أو بالتاريخ وحتّى بالنظرة إلى المستقبل.

drnassim@hotmail.com

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here