الجائحة والخطيئة.. مخاوف التماس البشري
تعزز المخاوف من الإصابة بالعدوى والارتباط الشديد بشبكة الإنترنت الزواجر الأخلاقية الأكثر تقليدية، بحسب ما كتبت الشاعرة الكولومبية بيداد بونيت في صحيفة (إل إسبكتادور) الكولومبية حيث قالت: في أيامنا هذه -أسوأ أيام الجائحة- أحياناً ما تراودني فكرة بشعة مفادها أننا لن نكون قادرين أبداً على أن نُعانق أحداً، لا أصدقاءنا ولا آباءنا أو أجدادنا ولا حتى أطفالنا.
وأملي ألا يكون الوضع كذلك. ورغم ذلك، فقد أثبت التاريخ أنه عندما يَحْمِل الجسد مرضاً معدياً، فإن التماس أول ما يفقده البشر. ولقد تراجعت الرغبة الشهوانية إزاء الإصابة بمرضي الزهري والإيدز. ورغم أننا نستعيد قدرتنا على التواصل عاجلاً أو آجلاً، يعتقد الفيلسوف الإيطالي فرانكو بيراردي أنّ المخاوف الناجمة عن تلك التجارب تصبح دائمة وتتجلى على هيئة (طقوس أو صرعة أو أساليب حياة).
ونشر بيراردي كتابه (ظواهر النهاية) (Phenomenology of the End) عام 2015، غير أنّ الكتاب يكشف الكثير عن هذا الزمن تحديداً. ورغم أنه ليس أول مَن يتناول الموضوع، فهو مِن أبرع مَن ناقشوه.
يفسِّر المؤلف كيف غيَّرَ التقدم من النظام التقني إلى الرقمي سبل تصورنا للأمور، وبدَّلَ بشكل جذري التفاعلات الاجتماعية. ويستشهد المؤلف بالتواصل الجسدي لبيان أن باستطاعتنا أن نعيش عالمنا فقط (عندما يتماس جسدنا بجسد الآخر (البشري وغير البشري)، فتستطيع الحرارة الانتقال من كائن إلى آخر).
ومن المُؤسف أنْ نقرأ ذلك عندما أمسينا نهاب حتى مساس الأسطح، بما في ذلك الأوراق ومقابض الأبواب وأزرار المصاعد.
ويوضِّح بيراردي الرابط بين التماس الجسدي والشعور بالندم الذي ظهر بالتزامن مع الأديان التوحيديّة التي تربط ما بين الجسد والخطيئة. ويتجلى ذلك أيما تجلٍ في فكرة حَبَل العذراء بلا دنس بالمسيح. واليوم، تآزرت النظافة الجسدية والثقافة الحديثة -اللتان تنظمان حصراً الوقت والنحو الذي يمكننا فيهما أن نتماس- وانضمتا إلى الصوت الرادع للأديان. ويكرر المجتمع أمر (لا تمسني)، كما أملى المسيح العائد على مريم المجدلية. ولكن، ما زالت التنويعات الثقافية على هذه الفكرة موجودة.
علاوة على ذلك، يزيد الخوف من جسد الآخر استهلاك المواد الإباحية، وهو ما يحدث أثناء الجائحة. وتيسيراً لأفكار بيراردي نوعاً ما، فإن الانتشار الراهن للمواد الإباحية يرتبط بـ(مرض عاطفيّ) يزيده سوءاً تَوسُّط المواد الإباحية وتوسعها على شبكة الإنترنت. لقد أدت العوالم الافتراضية والرقمية إلى انفصام البشر عن إحساسهم بالتقمص العاطفي والتفاهم.
يقول بيراردي إن التواجد على شبكة الإنترنت على الدوام قد يساعد الناس على الفرار من التوتر الناجم عن المنافسة أو العمل غير المُستقر، لكنه يُبطل التواصل الجسدي. ولقد اتخذت هذه الفكرة شكلاً متطرفاً في اليابان، حيث يعيش كثيرون في حالة تُعرف باسم (هيكيكوموري)، وهي شكل من أشكال الانسحاب الاجتماعي -ولكن داخل نوع من العباءة الرقمية- يشيع خصيصاً بين البالغين. وتُعدُّ كوريا الشمالية -(مهد شركتيْ سامسونج وإل جي)- دولة أخرى تمزج ما بين أعلى مستويات استخدام الهواتف الذكية والاتصال بشبكة الإنترنت من ناحية وأعلى معدلات الانتحار من ناحية أخرى.
(إن الرؤى المُتعمقة التي يطرحها بيراردي أكثر تعقيداً بمراحل من أن أشرحها هنا. لكنها جديرة التأمل، وبخاصة في وقتنا هذا حيث تضافرت الأخلاقيات التقليدية مع التمجيد الرقمي بغية إحباط التواصل الجسديّ).
طارق راشد – الإمارات