الثورة (الحقيقية) في الشؤون العسكرية
تأليف: أندريه مارتيانوف
عرض وترجمة: نضال ابراهيم
يشهد النظام العالمي الليبرالي، المتمثل في الهيمنة الأمريكية، الانهيار بوتيرة متسارعة، لكن تبقى نتيجة هذا الانهيار مسألة تكهنات ونقاش عام. ينظر هذا الكتاب في تطور الأسلحة والطريقة التي أثرت فيها على العلاقات الدولية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، ويناقش الثورة الحاصلة في الشؤون العسكرية على مستوى العالم.
منذ آلاف السنين، كانت الحرب قوة دافعة وراء التغييرات في الوضع الجيوسياسي لتكوينات السلطة (سواء كانت شعوباً أو ولايات أو إمبراطوريات)، ولا تزال كذلك حتى اليوم. وبناء على ذلك، وبعيداً عن الحرب الفعلية، يلعب تقييم (نمذجة) القوة العسكرية النسبية، دوراً كبيراً في تحديد الوضع الوطني.
تتراوح نماذج التغييرات الناشئة في القدرات العسكرية من بسيطة نسبياً إلى معقدة للغاية. ولا يعتبر النظر إلى تطور النظام الحالي للعلاقات الدولية خارج إطار القدرات العسكرية الفعلية، بدلاً من الدعاية العسكرية، عديم الجدوى فحسب؛ بل إنه خطر لأن التقييم الخاطئ للدول للقوة العسكرية الخاصة بها والدول الأخرى يمكن أن يؤدي إلى مغامرات خاطئة وأخطاء كارثية.
من المحتم أن تفشل جهود الولايات المتحدة ليس فقط للحفاظ على هيمنتها؛ بل أيضاً تصور إدراك هيمنتها لأسباب عدة مهمة، ولا شيء أكثر أهمية مما تم تعريفه غالباً في الفرضيات العسكرية النظرية الأمريكية السابقة حول مستقبل الحرب، والمعروفة عموماً باسم الثورة في الشؤون العسكرية. يشرح هذا الكتاب سبب فشل هذه الفرضيات واستمرار الفشل، ويتناول ما يحصل من ثورة حقيقية في الشؤون العسكرية.
التطور التكنولوجي
يرى الكاتب أنه لا يحدد التطور التكنولوجي في الأسلحة كاستجابة للمتطلبات التكتيكية والتشغيلية والاستراتيجية، الوضع الجيوسياسي للدولة فحسب؛ بل يحدد النظام العالمي أيضاً؛ إذ تعمل تقييمات القدرات العسكرية- إذا كانت قائمة على الواقع- بمثابة مؤشرات جيدة لمستوى التقلب في العلاقات الدولية ومستوى العنف على مستوى العالم.
كما يوضح أن الثورة في الشؤون العسكرية تتجلى من خلال السياسة والتخطيطات العامة والتكنولوجيا. ويستعرض بعض النماذج المفيدة في تقييم الوضع الجيوسياسي الحالي. يحاول هذا الكتاب أيضاً أن يقدم تنبؤاً بالتطور المستقبلي للحرب والطرق التي سيغير بها نظام العلاقات الدولية بأكمله، على أمل تحقيق توازن جيوسياسي جديد.
يقول المؤلف في مقدمته: «الحرب هي أداة جيوسياسية من الدرجة الأولى.. ولا تزال راسخة في الحالة الإنسانية، ونتيجة لذلك، فهي في مؤسساتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لا يمكن فهم الحرب بدون فهم أهم أدواتها وأسلحتها وأفرادها وتكتيكاتها وفنونها العملية».
لإحباط الاتهامات المحتملة بعدم الانتقاص من مجال العلوم الإنسانية الموجهة ضده، يقول المؤلف: «تجدر الإشارة إلى أن وجهة نظري مختلفة تماماً هنا: أصبحت الحرب الحديثة بين الدول القومية معقدة للغاية، في انعكاس لأدوات هذه الحروب نجد أن الأشخاص الذين لا يستطيعون فهم المبادئ الرياضية والجسدية والتكتيكية والتشغيلية الأساسية التي تعمل عليها أنظمة الأسلحة الحديثة ليسوا مؤهلين في الحد الأدنى لتقديم آرائهم حول قضايا الحرب وعمليات الاستخبارات والتكنولوجيا العسكرية بدون خلفيات مناسبة. إذا فشل بعضهم في ذلك، ما الذي يمكن أن يفكروا فيه سوى توفير المحتوى (ملء الفراغ/الترفيه) أو نشر الخط الرسمي للدعاية، باختصار الدفاع عن الحروب وافتعالها؟»
أصبحت معظم الحروب الحديثة، صراعات غير منتظمة أو غير متكافئة بين الدول والجهات الفاعلة من غير الدول. ليست الحروب الحاصلة عبارة عن مبارزات عالية التقنية بين القوى التقليدية، لكنها تكافح التي تحرض الحكومات وحلفائها ضد المعارضين الذين يقاتلون على أسس دينية وثقافية ويستخدمون الانقسامات الداخلية والسكان كأسلحة.
تتشكل العديد من هذه الصراعات من خلال الإيديولوجية الدينية والاختلافات الطائفية المتطرفة. تتشكل معظمها من خلال الصراعات المدنية العسكرية التي تقودها الحكومات والاقتصادات الضعيفة أو الفاشلة، وغياب القانون، والضغوط الديموغرافية في جميع أنحاء العالم التي خلقت «الانفجار الشبابي» من حيث الطلب على التعليم وفرص العمل وزعزعة الاستقرار الداخلي.
أسلحة جديدة
في عام 2018، قدمت روسيا، عدداً من أنواع الأسلحة الجديدة تماماً مثل الصواريخ الطويلة المدى، الطوربيدات التي تعمل بالطاقة النووية وأنظمة تتجاوز سرعة الصوت.
يوضح مارتيانوف، أن هذه الأشياء قد أزالت الحصانة التي اعتقدت الولايات المتحدة أنها تملكها. فلا يوجد في الولايات المتحدة أنظمة قابلة للمقارنة، وقد تأخرت سنوات في تطويرها.
دائماً ما يكون مفهوم الحرب الأمريكية في الحرب التقليدية هو كسب التفوق الجوي أولاً. فقط بعد تحقيق ذلك، من المفترض أن تدخل القوات. لكن التطورات الجديدة في الدفاع الجوي والصاروخي الروسي تجعل من المستحيل على الولايات المتحدة شن مثل هذه الحرب ضد روسيا أو أي دولة تستخدم مثل هذه الأسلحة. قد تمتلك دول أخرى قريباً قدرات مماثلة لروسيا (والصين). وقد تقرر أيضاً تطوير أسلحة أرخص وغير متكافئة مثل الطائرات بدون طيار.
يرى مارتيانوف العالم في بداية عصر جديد؛ حيث ستتم إعادة ترتيب القوة العالمية نحو نظام متعدد الأقطاب. ويرى أن أساس ذلك هو الثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية التي أنشأتها روسيا وغيرها، بينما كانت الولايات المتحدة لا تزال مشغولة بإخبار نفسها بأن قوتها ستزداد.
تجبر الثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية الدول الحديثة على استخدام التطورات في التكنولوجيا العسكرية للتركيز على تقليل الخسائر في صفوف المدنيين والأضرار الجانبية بدلاً من تدمير العدو.
في بعض الحالات، تجعل قوانين الحرب المصممة لأنواع مختلفة تماماً من القتال، سلاحاً سياسياً ودعائياً في أيدي الجهات الفاعلة التي ليست دولاً، والدول التي تستخدم وسائل قتال غير متكافئة. لكن هذا ليس سوى جزء من الثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية. في معظم الحالات التي تشكل فيها الجهات الفاعلة غير الحكومية تهديداً خطراً، تكون الحكومة ضعيفة جداً وغير شعبية وضعيفة لدرجة أن العمل الفعال يتطلب بناء دولة مسلحة.
إن البعد المدني في خلق استقرار سياسي أكبر، وحكم أكثر فاعلية، وفرص عمل كافية وتنمية اقتصادية على الأقل له أهمية حاسمة مثل البعد العسكري، وفي بعض الأحيان يحل الجهد السياسي في الواقع محل القتال العسكري.
يرى المؤلف أن أساليب الدعاية والاتصالات الاستراتيجية للقتال تصبح بنفس القدر من الأهمية. وتصبح الانتصارات التكتيكية بلا معنى بدون انتصار مدني، ولا تستطيع القوات العسكرية وحدها هزيمة العدو. لم يعد مقياس النجاح هو أي جانب يفوز بسلسلة من المعارك؛ بدلاً من ذلك، يتم قياس النجاح من خلال أي جانب له تأثير وسيطرة على السكان. يصبح الوقت والمرونة في عداد الأسلحة أيضاً. لا توجد عادة طرق سريعة للتعامل مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الداخلية للدولة وإخفاقات نظامها السياسي وحكمها. تُظهر التجربة أن الحروب الطويلة منخفضة المستوى تميل إلى تفضيل الفاعل غير الحكومي أو ببساطة الجانب الأكثر ثباتاً. ويصبح البعد الإنساني والسياسي في حروب الاستنزاف مركز الثقل الحقيقي.
استغلال الفرص
غالباً ما تختار التكلفة المالية للحرب الفاعل غير الرسمي أو الأيديولوجي على القوات العسكرية الحديثة. فقد أصبحت الحاجة الأقل إلى الأسلحة والمال من خلال الاعتماد بشكل أكبر على التضحيات البشرية والاستشهاد والقتال غير التقليدي عنصراً جديداً آخر للثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية. وكذلك الأمر مع التعقيد الهائل للصراعات بين الفصائل وغيرها، إلى جانب تنوع وتغير الشخصيات الفاعلة من غير الدول. وكما أظهرت «القاعدة» والفصائل الجهادية الأخرى، فإن تجزئة وتنوع الفاعلين من غير الدول يمكن أن يوزعوا في الواقع شبكات متشددة تابعة ومستقلة مدعومة بالتأثير العام للشبكات الاجتماعية عالية التقنية واستخدام الإنترنت.
اغتنمت الدول، الفرص كما هو الحال مع إيران والصين وروسيا؛ حيث تتكيف القوات العسكرية للجهات الحكومية أيضاً مع استخدام الحرب غير النظامية بشكل فعال. لدى الحرس الثوري الإيراني الآن مزيج معقد من القوات البرية والصاروخية غير المتكافئة الأرضية المخصصة لتحدي جيران إيران والولايات المتحدة، إضافة إلى فرع يسمى فيلق القدس المكرس للعمل مع الجهات الفاعلة غير الحكومية في بلدان أخرى لتحدي الأنظمة غير الصديقة. وجعلت الصين الحرب غير النظامية، عنصراً رئيسياً في كل جانب من جوانب عقيدتها العسكرية، وركزت على الحرب السياسية في بحر الصين الجنوبي، وأظهرت أنه يمكنها استخدام خفر السواحل وحتى منصة التنقيب عن النفط لتحقيق أهدافها. وقد أظهرت روسيا في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا الشرقية كم تعلمت من محاولاتها الخرقاء في الشيشان وجورجيا.
أصبح استخدام وسائل غير متكافئة للترهيب وتجنب الصراع أو الحد منه عنصراً من عناصر الثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية أيضاً. فالهدف من «حروب المودة» هو الفوز على المستوى الاستراتيجي دون قتال فعلي. والجانب المتفوق هو الطرف الذي يمكنه المناورة والتهديد والضغط في طريقه إلى النصر دون إطلاق أي رصاصة أو على الأقل تحمل مخاطرة عسكرية خطرة.
هنا، النموذج الذي قدمه الاستراتيجي العسكري الصيني صن تزو لا يزال ملائماً مثل أي وقت مضى، ومما قاله: «100 انتصار في 100 معركة ببساطة أمر مثير للسخرية. يجب على أي شخص يتفوق في هزيمة أعدائه أن ينتصر قبل أن تصبح تهديدات أعدائه حقيقية». لا يعني أي من هذه التطورات أن «الحرب التقليدية» لا تظل خطراً وواقعاً. تدور الحرب التقليدية كل يوم في أفغانستان والعراق واليمن وغيرها. إنه الآن شبح في كل حساب عسكري أمريكي يتضمن ظهور الصين وإعادة ظهور روسيا في عالم متعدد الأقطاب.
تحديث السياسة العسكرية
يرى المؤلف أن الولايات المتحدة تحتاج إلى القيام بعمل أفضل للتعامل مع الثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية. كما ظهر في أفغانستان والعراق وفيتنام قبلهما.
لا يمكن للولايات المتحدة، الاعتماد على القوى الاحترافية والتكنولوجيا المتفوقة وحدها لخوض الحروب التقليدية؛ بل عليها الاعتماد أكثر على «القوة الناعمة» والشراكات مع الحلفاء الضعفاء والمنقسمين داخلياً كبديل عن استخدام القوة. يجب على الولايات المتحدة تكييف قواتها للقتال على مستويات غير متكافئة من الحرب السياسية العسكرية. يجب عليها أن تحسن تدريجياً قدرتها على مهاجمة العدو بشكل انتقائي مع الحد الأدنى من الضحايا المدنيين والأضرار الجانبية. يجب عليها أن تقوم بعمل أفضل بكثير في دمج مناهجها المدنية والعسكرية للحرب، ويجب أن تركز أكثر على تشكيل النتيجة الاستراتيجية الدائمة للصراع بدلاً من كسب الانتصارات التكتيكية.
لم تنتصر التكنولوجيا على البعد الإنساني للحرب، ويجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للانخراط في صراعات سياسية وأيديولوجية طويلة ومعقدة بشروط محلية وتحت ظروف محلية في مزيج أكثر تعقيداً من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية.
تحتاج الولايات المتحدة إلى التركيز على مدى اختلاف الظروف التي تشكل حروباً غير منتظمة أو غير متكافئة في مجالات معينة من المصالح الاستراتيجية الأمريكية. من غير المجدي محاولة صياغة الاستراتيجيات والمذاهب لتناسب العديد من الحالات المختلفة على نطاق واسع عند وجود العديد من المتغيرات المختلفة في الصراعات، حتى في منطقة واحدة.
تحتاج الولايات المتحدة إلى التكيف مع حدود وفرص كل حالة ولا تتوقع أن تتكيف الحالة مع حدودها. تحتاج الولايات المتحدة إلى تعلم كيفية اتخاذ خيارات بين الخيارات الخطرة وغير المؤكدة، بدلاً من القفز أو الوقوف والانتظار. يجب أن تكون مستعدة للانخراط فعلياً بناء على الحقائق المحلية والقدرات الواقعية لحلفائها وشركائها المحليين، بدلاً من رغباتها الخاصة.
نبذة عن الكاتب
* أندريه مارتيانوف خبير في القضايا العسكرية والبحرية الروسية. ولد في باكو، اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في عام 1963، وتخرج من أكاديمية «كيروف نافال ريد بانر»، وعمل كضابط في السفن ومركز الموظفين في خفر السواحل السوفييتية حتى عام 1990. وشارك في أحداث القوقاز التي أدت إلى انهيار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية.
في منتصف التسعينات، انتقل إلى الولايات المتحدة؛ حيث يعمل حالياً كمدير مختبر في مجموعة طيران تجارية. ومدون متكرر على مدونة المعهد البحري الأمريكي. ومؤلف كتاب «فقدان السيادة العسكرية: قصر النظر للتخطيط الاستراتيجي الأمريكي».