الثقافة العربية في 2045
عادة ما نسمع ونقرأ عن المهرجان الأوّل، المعرض الأوّل،الندوة الأولى، المؤتمر الثالث، كعناوين لأنشطة ثقافية في السينما والمسرح والموسيقى والفلكلور وغيرها من الفعاليات في البلدان العربية إلا أن هذا الرقم لا يتعدّى الأوّل أو الثالث، في معظم الدورات، وفي أقْصَى إمكانية يصل إلى الرقم سبعة، إذ تغيب هذه الفعاليات فجأة أو تتراجع. حدث ذلك في مصر والمغرب والكويت والسعودية ولبنان، ويمكن أن نذكر كمثال مهرجان بيت الرواية السنوي في تونس ومهرجان قس بن ساعدة في نجران ومؤتمر الشعر في القاهرة، ولنقس على ذلك غياب الكثير من المجلات الثقافية فجأة وإغلاق معاهد موسيقية وتراجع فرق فلكلورية، كحال فرقة رضا في مصر أو كركلا في لبنان أو اختفاء ما يقرب من عشرين فرقة للرقص الشعبي في اليمن، وفي المقابل نجد مهرجانات وفعاليات جديدة تنشأ كمهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدّة، والصندوق الثقافي في الرياض ومشروع نقل المعارف في البحرين وفعاليات أخرى في الإمارات، ولا نعرف إلى متى ستبقى.
وأظن أننا لسنا في حاجة إلى تساؤلات كثيرة عن الأسباب التي أدّت إلى هذا التراجع أو إحداث مناشط جديدة إذ أن من السهولة رؤية عدم الاستقرار في بعض هذه البلدان لنعرف إلى أي مدى يصبح الاهتمام بالثقافة هامشيا إضافة إلى عدم وجود التخطيط الثقافي الذي يقرن الرؤى بالتنفيذ، ولهذا لا يجد الإداريون أو المسؤولون حرجا في إنهاء أي نشاط كان مقرّرا له أن يبقى. فبالرغم من أن هذه البلدان تزعم التوجه نحو الانفتاح عامة، فإنّها لم تعط للثقافة المكانة اللائقة من الاهتمام، إذ لا يمكن تحقيق أي انفتاح عماده التعدد والنهوض في كل المجالات، دون اتكاء على رؤية ثقافية تنطلق من اعتبار هذه الأنشطة ضرورة تنويرية متلازمة لأي حركة نهضوية، وليس مجرد بهرجة إعلامية سرعان ما تنطفئ كالفقاعات.
قرأت الكثير من الاستراتيجيات الثقافية لمنظمّات عربية، أو تعمل في النطاق العربي، مثل الألكسو والإيسيسكو واليونسكو والإسكوا ووجدتها لا تخرج عن إطار التنظير لأهمّية الثقافة ودورها وكيفية الحفاظ على الهويّة الثقافية واللغوية… إلخ، ونادرا ما وجدت خطّة أو رؤية لتنفيذ نشاط محدّد، كما حدث في إقرار فعاليات عاصمة الثقافة العربية (1996- 2022) والتي بادرت بها اليونسكو، مع ألكسو، على غرار عاصمة الثقافة الأوروبية.
في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي دُعِيتُ إلى اجتماع تشاوري في بيروت للإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) شارك فيه عدد من الفنّانين والأدباء، بهدف اقتراح رؤية مستقبلية تختص بحال الثقافة العربية عام 2045، وهو عام يصادف الذكرى المئوية لتأسيس جامعة الدول العربية والأمم المتحدة.
وفي الاجتماع وتجاوزا للكلام العام والنقاشات التي تدور عادة دون إيجاد تصوّر عملي لنشاط ملموس، رأيتُ أن أهم ما يمكن عمله هو إعطاء أفكار أو تصوّرات، للهيئات الرسمية والمجتمعية، قد تساهم في إحداث نهضة ثقافية في البلدان العربية، التي صارت في معظمها تعاني من مشكلات التطرف الديني والصراع الطائفي والجهوي، مما عكس ذلك على مجمل الحياة الاجتماعية، وذلك من خلال عمل خطط زمنية لإقامة فعاليات ثقافية، تعمل على تعزيز نشر قيم التنوير والتعدد وصولا إلى عام 2045.
ومن أجل هذا الهدف، طرحتُ فكرة احياء تجربة العواصم الثقافية العربية وإن بشكل مختلف، لما أحدثته هذه المناسبة من تنشيط للكثير من الجوانب الثقافية، حيث بالإمكان إحداث مناسبات تنافسية بين العواصم العربية على غرار الأعوام الثقافية، مثل: عام التراث، عام الفلكلور، عام الكتاب المدرسي، عام المكتبة المدرسية، عام القراءة، عام اللغة العربية، عام الترجمة، عام الفلسفة العربية، عام العلوم والتكنولوجيا، عام المسرح، عام السينما، عام الموسيقى، عام الرواية، عام الشعر، عام ابن رشد، عام ابن سينا …إلخ
ومقترحات الأعوام، هذه، من شأنها، كما يبدو لي، أن تساهم في إيجاد بنى تحتية ثقافية وتحيي الاهتمام بالآثار والفلكلور المحلي الذي يعتبر أهم ملامح خصوصية الثقافات المحلية، وبالذات في مجال الرقص والغناء والأزياء، ويمكن توسيع دائرة الاهتمام بالقراءة عبر خطط لإصلاح المنهج التعليمي العربي الذي في معظمه لا يحفّز على مواصلة البحث الفكري والعلمي والقراءة ويخلو، في أكثره، من دروس الفنون والآداب، وكذلك توسعة الاهتمام بالمكتبة المدرسية التي تفتقدها معظم البلدان، وهو ما سيعزّز فكرة تخصيص سنة للقراءة.
ويمكن للهيئات الإقليمية والدولية المعنية التنسيق فيما بينها لتنفيذ مثل هذه الأنشطة بدلا من أن تبقى حبيسة التنظيرات والخطط الكثيرة.
وإذا كان الدعم المالي يشكّل أبرز المشاكل التي تواجه هذه الفعاليات إلى جانب الإدارة الثقافية الفاعلة، فإن فكرة انشاء صناديق للتنمية الثقافية والتي بدأت في بعض البلدان وحقّقت فعالية متميّزة، كفيلة بإيجاد الكثير من الحلول، وذلك عبر إسهام رأس المال المحلّي الخاص والوطني المُنتج بضريبة مالية سنوية تُقرّ من العوائد الربحية لصالح الصندوق، ومعظمنا يعرفُ مدى إسهام تطوّر الرأسمال في أوروبا في ازدهار الفنون والآداب والصحافة، إضافة إلى إسهام المؤسسات الحكومية المعنية، أمّا في جانب الإدارة الثقافية، فيكون ذلك من خلال انتداب أشخاص مؤهلين وخبراء من كل بلد للمشاركة في ورش توضّح هدف المشروع ومسارات تحقّقه.
علي المقري