البرازيل من 1964 إلى 2019
تأليف: بيري أندرسون
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
أصبحت البرازيل عالماً قائماً بحدّ ذاته، تحت قيادة حزب العمال منذ عام 2003 إلى 2016؛ حيث أصبحت مسرحاً للدراما الاجتماعية والسياسية، وشهدت صعوداً اقتصادياً عاماً؛ لكن يبدو أن مجريات الأحداث تغيّرت، وألقت بظلالها على كافة القطاعات. يتساءل هذا الكتاب عما ينذر به الميل المفاجئ إلى اليمين تحت قيادة جايير بولسونارو بالنسبة للبرازيل، كأكبر بلد في أمريكا اللاتينية، وكيف حدث ذلك؟
حكم حزب العمال اليساري البرازيل منذ عام 2003؛ عندما تولى لويس إيناسيو لولا دا سيلفا منصبه، حتى عام 2016، عندما تم عزله لتصبح ديلما روسيف بديلة له. يرى أندرسون في هذه الفترة تمزقاً لإجماع واشنطن (الإجماع هو مسودة طرحها جون وليامسون عام 1989 لتكون علاجاً ووصفاً من عشرة بنود للدول الفاشلة التي واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية وكيفية تنويع اقتصادها وإدارة مواردها الطبيعية، إضافة إلى دعوته البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية لتبني هذه البنود)؛ حيث تحولت الثروة إلى الفقراء عبر برامج اجتماعية مبتكرة.
يعلق الكاتب أندرسون بقوله: «لمدة عشر سنوات، كانت البرازيل الدولة الرئيسية الوحيدة في العالم التي تتحدى العصر، لرفض نظام الليبرالية الجديدة؛ خشية فقدان مكانتها، خاضت الطبقة الوسطى حرباً طبقية من جانب واحد، انتهى بها الأمر إلى تنصيب بولسونارو رئيساً».
ويرى أنه لم يكن الشيء المفاجئ في حزب العمال هو تطرفه؛ بل كم كان تقليدياً، خاصة في عهد روسيف. فباسم «التنمية الوطنية»، حصلت الشركات الكبرى على إعانات كبيرة؛ من خلال القروض الرخيصة والإعفاءات الضريبية. وبهدف كسب الليبراليين الجدد؛ وضع حزب العمال المال العام في أيدي عدة شركات كبرى من القطاع الخاص.
بدايات وانطباعات
البرازيل تمتلك اليوم عدداً أكبر من السكان، وناتجاً قومياً إجمالياً أكبر. وعلى الرغم من كل الأسباب، فإنها لا تزال تحتل موقعاً هامشياً غريباً في الخيال التاريخي المعاصر.. لا تزال الصور الشعبية، على الرغم من السياحة المتزايدة، شحيحة: الأشرار الهاربون، والاستعراضات الموسمية في ملابس تنكرية، وانتصارات كرة القدم الدورية.
من ناحية التأثير الثقافي، عندما اكتسحت موسيقى وأدب أمريكا اللاتينية العالم، تراجعت البرازيل. فقد تغلبت إيقاعات السالسا منذ فترة طويلة على إيقاعات السامبا، وقائمة الروائيين البارزين تغفل بوضوح الدولة التي أنتجت أكثر روائيي القرن التاسع عشر ابتكاراً خارج أوروبا، وهو الروائي والكاتب البرازيلي ماتشادو دي أسيس، الذي يعد الأب الحقيقي للأدب البرازيلي الحديث، ومؤسس الأكاديمية البرازيلية للآداب ورئيسها حتى وفاته في 29 سبتمبر/أيلول، 1908.
من المرجح أن يحصل القرّاء الشماليون اليوم على انطباع عن البلد من كلام منمق وطنان من أحد كتّاب البيرو أكثر من أي عمل روائي محلي داخل البرازيل. إذا ظل أكبر مجتمع في نصف الكرة الجنوبي خارج الشاشة ذهنياً بالنسبة لمعظم الغرباء، فإن جزءاً من السبب يكمن في تاريخه السياسي الحديث.
على الصعيد الدولي، أصبحت القارة تظهر في شريط الأخبار العالمية للمرة الأولى في أعقاب الثورة الكوبية؛ عندما كان شبح حركات العصابات يطارد واشنطن. لم تكن البرازيل في طليعة هذا الاضطراب. مقارنة بفنزويلا أو كولومبيا أو البيرو أو الأرجنتين، كانت حلقات التمرد – إلى حد كبير في المناطق الحضرية – صغيرة وسرعان ما تنطفئ.
من ناحية أخرى، وصلت الديكتاتورية العسكرية في وقت مبكر، أوائل الستينات، قبل ما يقرب من عقد من الزمان من قدوم الرئيس السابق للتشيلي أوغستو بينوشيه أو الرئيس الأسبق للأرجنتين خورخه فيديلا – واستمرت لفترة أطول، لأكثر من عشرين عاماً. كان الجنرالات البرازيليون دائماً الأكثر براعة في المنطقة؛ حيث ترأسوا معدلات نمو قياسية في السبعينات، وفتحوا عملية إعادة دمقرطة تمت معايرتها بعناية في الثمانينات، في عملية سيطروا على نهايتها تقريباً.
تحوّلات سياسية
في عام 1984، اندلعت تظاهرات ضخمة؛ لإجراء انتخابات مباشرة في المدن الكبرى، في الوقت الذي كان يستعد فيه الكونجرس المحلي لاختيار رئيس جديد، وفقاً لتوجيهات القيادة العليا. لم يستسلم النظام. لكن الخوف من الانتقام الشعبي؛ أدى إلى تقسيم النخبة المدنية التي دعمتها حتى الآن؛ حيث انشقت عدة شخصيات بارزة في الشمال الشرقي – جوهر نظام التحالفات السياسية – ليصبحوا مع المعارضة.
أوقف الجيش الضغط على الشوارع، ولكن على حساب فقدان السيطرة على الكونجرس؛ حيث تحولت نظرات ملاك الأراضي والرؤساء المحليين، وأتباع النظام المرنين، من المرشح الرسمي إلى سياسي معتدل هو تانكريدو نيفيس (رئيس وزراء البرازيل للفترة من 8 سبتمبر/أيلول 1961 لغاية 21 يوليو/تموز 1962 أيام حكم الرئيس جواو غولار)، الذي عمل كرمز للمبدأ الدستوري والمصالحة.
على الرغم من أن نيفيس لم يكن أبداً معارضاً صريحاً للديكتاتورية، ولم يكن ليفوز في منافسة خلال انتخابات مباشرة، فإن تبنيه غير المباشر من قبل الكونجرس رئيساً جديداً للبلاد تم تكريسه من قبل الرأي العام، وسط توقعات هائلة، باعتباره النصر النهائي للديمقراطية على الاستبداد. مع وفاته المفاجئة عشية تنصيبه رئيساً للبلاد في مارس/آذار 1985، أصبح الرئيس الجديد بدلاً عنه نائبه الدكتاتور خوسيه سارني.
اندفعت البرازيل إلى عصر التحول الديمقراطي. لم يكن هناك أي انقطاع حاد للمؤسسات أو الأشخاص، مقارنة بسقوط العصبة الحاكمة في الأرجنتين أو رفض الاستبداد في تشيلي. في محاولة لإثبات افتقاره للشرعية الشعبية، شكل سارني حكومة كانت في الواقع أقل تحفظاً إلى حد ما من الإدارة التي تصورها نيفيس، وهي خطوة برازيلية مميزة. لكن رئاسته ظلت ضعيفة وغير منتظمة. عندما وصل، كان معدل التضخم السنوي يزيد على 200 في المئة؛ عندما خرج، أوصلت سلسلة من علاجات الصدمة المختلطة وخطط الطوارئ معدّل التضخم إلى نحو 2000 في المئة.
الثروة والسلطة
البرازيل أكثر مجتمع صناعي غير متكافئ في العالم، ولكن في كثير من الأحيان لا يريد الناس أن يتم تذكيرهم كثيراً ببؤسهم. لقد علق المؤرخ البريطاني فيكتور كيرنان ذات مرة بحكمة على ذلك بقوله: إذا كان الوعي الطبقي دائماً أضعف من الناحية التاريخية بين من يتم استغلالهم، فإن أحد الأسباب ببساطة هو أنه من غير المحبذ للغاية أن نتعايش مع الفكر المستمر لثروة الفرد السيئة، هناك نوع من الهرب فعلياً وهو يشابه الضرورة الوجودية؛ في حين أن هناك رضى تاماً في التأمل المتكرر للثروة والسلطة، إذا كان أحد يمتلكها. بالنسبة للكثيرين، كانت لوائح اتهام لولا – مهما كانت صادقة – مبعثرة.
وعلى الرغم من أن فرناندو هنريك (الرئيس ال34 للبرازيل من 1 يناير/كانون الثاني 1995 إلى 31 ديسمبر/كانون الأول 2002)، لا ينكر عدم المساواة أو المعاناة، فإنه ركز في حملته على الإمكانات الهائلة للبرازيل كدولة، والمستقبل المشرق لشعبها، إذا كان من الممكن تحقيق هذا النوع من النمو الصحيح مرة أخرى. كانت الإصلاحات ضرورية أيضاً. لكن العنوان الرئيسي كان الأمل، وليس السخط. مع هذا النداء، فاز فرناندو هنريك بالرئاسة بأغلبية ساحقة في الاقتراع الأول، بأكثر من ضعف أصوات لولا. الانتصارات الانتخابية القليلة كانت حاسمة للغاية.
وكان النصر مع ذلك ظلاً. كانت الجبهة السياسية التي احتشدت وراء كاردوسو أوسع من تلك التي كانت وراء فيرناندو كولور ميلو؛ لأنها شملت فعلياً كل القوى الاجتماعية التي دعمت كولور، إضافة إلى كل أصوات يسار الوسط الذي رفضه. ومع ذلك، على الرغم من زيادة حجم الناخبين وإلزامية التصويت، فإن فرناندو هنريك حصل على ما مجموعه 34 مليون صوت، أقل من كولور بشيء ضئيل. وجدير بالذكر أن فيرناندو كولور ميلو كان أول رئيس برازيلي انتخب بشكل ديمقراطي بعد انتهاء سيطرة الجيش على الحكومة في عام 1989 واستلم الرئاسة في 1990 إلى 1992. عرفت فترة حكمه بمشروع كولور؛ ففي تلك الفترة فتح أبواب البرازيل للاستيراد، وترك المنصب بعد أن ثار الشعب ضده، وطالب بتنحيته، واتهم بعدة تهم من بينها الفساد.
وفي تحد للقانون، امتنع 16 مليون شخص عن التصويت، و14 مليون صوت آخر قدّم ورقة تصويت فارغة أو غير صحيحة، أي ثلاثة أضعاف عدد الأصوات في عام 1989. عندما اكتمل العدّ، أصبح من الواضح أن الناخبين قد انقسموا في الواقع إلى أولئك الذين صوتوا لمصلحة فرناندو هنريك (36 في المئة)، وأولئك الذين ليس لديهم تفضيل واضح (33 في المئة).
تبني الليبرالية الجديدة
خالف لولا دا سيلفا الاتجاه العالمي بالمضي نحو ليبرالية جديدة أكثر تشدداً؛ حيث أبعد الوعود المنهارة في السنوات السابقة بالاستثمار في التحولات الاجتماعية، متحدياً الافتراءات في وسائل الإعلام البرازيلية ليصبح الحاكم الأكثر شعبية في عصره. لكن في الانقلاب الثاني المدهش، تم تعزيز الانقلاب البرلماني ضد خليفة لولا – المدعوم من قبل قوى في القضاء واليمين الجديد الشاب – باستحواذ بولسونارو عام 2018 على قصر بلانالتو الرئاسي. مع وجود النجم في حزب العمال الآن خلف القضبان، (تم إطلاق سراحه) هناك حاجة ملحة؛ لإثبات تراثه والتناقض في نظام بولسونارو.
عندما كان جايير بولسونارو رئيس مجلس النواب في البرازيل عام 2017، حصل على أربعة أصوات فقط. ويرجع السبب بأنه أصبح معروفاً، إلى قدرته على الغضب، والتهجم اللفظي. ومع ذلك، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، تم انتخابه بشكل سلس رئيساً للبرازيل. السؤال الذي يطرحه الكثير: أي نوع من الانهيار السياسي يمكن أن ينتج عن مثل هذه النتيجة؟
جمع بيري أندرسون، الذي درس لأول مرة في البرازيل في الستينات، سلسلة من المقالات الطويلة المنشورة في مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» في هذا الكتاب. بدءاً من انتخاب فرناندو هنريك كاردوسو عام 1994، الذي حضر ندوته حول كارل ماركس في جامعة ساو باولو. ولكن كتفسير لظاهرة بولسونارو، فإنها أبعد ما تكون عن ذلك. بدلاً من ذلك، يكرر أندرسون العديد من رذائل اليسار البرازيلي؛ مثل: خليط من لعب الضحية ومزاحمة المذهب الليبرالي الجديد الذي يجعل المعارضة غير قادرة على فهم صعود اليمين المتطرف.
يقول الكاتب: لا يزال صعود بولسونارو يمثل تحدياً لليسار البرازيلي المنقسم. إن التخمين الثاني الذي لا نهاية له حول جدوى «الإصلاحية المحدودة» للولا والتأكيد الشامل على مصير لولا نفسه يحول دون إجراء مناقشة جادة حول طبيعة الإدارة الحالية، ومدى جاذبيتها الشعبية، وكيف تتم معارضتها بشكل أفضل. هناك روايات مثل «الفاشية» و«النيوليبرالية» تحل محل هذا النوع من الاستفسار. على الرغم من وضوح الرؤية حول سجل بولسونارو الخطابي الطويل من القسوة العرضية، يشير أندرسون إلى أن وصفه بأنه فاشي غير دقيق، تماماً مثلما يتم التعامل مع ترامب، بالنظر إلى عدم وجود حركة جماهيرية ضاربة مرتبطة بأي منهما.
ويضيف: إن الليبرالية الجديدة، أقل بقليل من الفاشية، هي إطار غير كافٍ لفهم الإدارة الحالية في البرازيل. يتعايش هذا الاتجاه في حكومة بولسونارو مع قوى أخرى معادية في كثير من الأحيان مرتبطة بالقوات المسلحة والبروتستانتية الإنجيلية والمحافظين الذين لم يقتنعوا بسيادة السوق. يبدأ أندرسون في استكشاف أول اثنين من هذه العوامل، مشيراً إلى صلات بولسونارو بشبكات الإنجيليين في ريو.
ويقول الكاتب في الختام: شهدت السنوات القليلة الماضية ظهوراً مفاجئاً؛ بل شهدت صعوداً فورياً إلى السلطة تقريباً، لما يبدو أنه يمين برازيلي حقيقي، مختلف لأول مرة عن الميول العسكرية، والأوليغارشيين الشمال شرقيين، والاقتصاديين الليبراليين. في حين كان «المحافظ» قبل عدة سنوات مجرد شخص وتعمل الأحزاب على تجنبه، فإن حزبي بولسونارو وكاردوزو يؤكدان ادعاءات التنافس مع التيار المحافظ الحقيقي. لم يكن هذا يعني، حتى الآن، الاستقلال السياسي لهذا اليمين الجديد عن القوى التقليدية المحافظة الأخرى؛ ولا يعني بالضرورة أن مثل هذا الاستقلال سيكون مفيداً للبلاد. لكن بهذه الطريقة، لا يكون تاريخ البرازيل منذ عام 1964 متماثلاً فقط. فبقدر ما هو متماثل، قد لا يكون ببساطة هزيمة اليسار هي المسؤولة، ولكن أيضاً الرذائل وعدم نضج اليمين الناشئ.
نبذة عن الكاتب
* بيري أندرسون (من مواليد 11 سبتمبر 1938) مؤرخ وكاتب بريطاني، وشقيق العالم السياسي بنديكت أندرسون (1936-2015). يركز في أعماله وأبحاثه على علم الاجتماع التاريخي والتاريخ الفكري والتحليل الثقافي. كما يعمل على دراسة الماركسية الغربية. وهو أستاذ التاريخ وعلم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا ( لوس أنجلوس). وضع أندرسون ما يزيد على خمسة عشر كتاباً من بينها: «مقاطع من العصور القديمة إلى الإقطاعية» (1974)؛ «في مسارات المادية التاريخية» (1983)؛ «أصول ما بعد الحداثة» (1998)؛ «العالم القديم الجديد» (2009)؛ «الأيديولوجية الهندية» (2012)؛ «السياسة الخارجية الأمريكية ومفكريها» (2014).