تقاريرثقافة

إشكالية‭ ‬إصلاح‭ ‬مناهج التعليم‭ ‬الديني

المصدر

لا يوجد منهج تعليم لأية مادة إلا يحتاج لمراجعة دورية، وذلك على ضوء مستجدات تغيرات الواقع المجتمعي الحياتي من جهة ومستجدات التطورات الهائلة في نظريات واكتشافات ونتائج تطبيقات كل العلوم الطبيعية والإنسانية من جهة أخرى. ولما كان الدين هو من أكثر المؤثرين والمتفاعلين مع تطورات وتقلبات عقل الإنسان ونفسيته وسلوكياته، وهي جوانب تتغير مع مرور الأزمنة ومستجدات أمور الدنيا، فإن تلك القاعدة تنطبق على التعامل معه فهمًا وتطبيقًا، بما في ذلك مناهج وأساليب تعليمه للأجيال الشابة.
ستكون كارثة على الدين نفسه، وسيكون نقصًا في سيرورة التنشئة والإعداد للحياة، لو أن تعليم الدين وفهمه لم يتطور بصورة مستمرة ليجيب عن الأسئلة الجديدة وليتفاعل مع تعقيدات الحياة الحاضرة ولتهيئة ما سيأتي به المستقبل المنظور. من هنا الأهمية القصوى لطرح موضوع تجديد مناهج تعليم الدين للنقاش، ولمحاولة الوصول إلى رسم طريق آمن يوصل إلى مواجهته بموضوعية وصدق، تمشيًا مع ما أمر به القرآن الكريم نفسه من التواصي بالحق وبالتفكر الدائم.
ومع ذلك من الضروري التنبيه إلى أن الكثيرين، بمن فيهم علماء اجتماع كالعالم الناقد الفرنسي بورديو، قد لحظوا حتى في بلدان الغرب العريقة في الممارسة الديمقراطية والحداثة، أن المدرسة تميل نحو إعادة تعليم وتكرار الثقافة نفسها جيلًا بعد جيل؛ وذلك بسبب مغالبات الإرادة السياسية الحاكمة والمجتمعية وخوفها الدائم من ثقافة التغيير والتجديد في فكر وروح الأجيال الجديدة من الطلبة.
فإذا كان الأمر هكذا في بلدان ثورات الحضارات وتوافر الحريات العامة، فإن الصعوبات ستكون أكثر وأصلب في بلدان المحافظة والخوف من الجديد والتوجس من كل إبداع، الذي تعتبره بدعة وفتنة وخروجًا على قاعدة الإجماع الديني الفقهية، كما هو الحال في أغلب بلدان العرب والمسلمين.

إشكاليات تنتظر المراجعة
ما إن توفي الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى بدأت الإشكاليات تطل برأسها. فمثلًا بالنسبة لفهم القرآن الكريم اختلف بعضٌ حول أسباب النزول، وما الظاهر والباطن، وأين يوجد الناسخ والمنسوخ، وما مكانة العقل كأداة للفهم مقارنة بالنقل، وهل يركن إلى المقاصد الكبرى أم إلى التعابير الحرفية؟ وعندما أقحم الدين في السياسة حدثت فتنة دموية كبرى أودت بحياة الألوف من المسلمين، وأطل برأسه موضوع القرابة الأسرية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يعنيه ذلك من مكانة وحقوق في الحكم للأقرباء. ومن تلك البدايات قامت الانقسامات المذهبية باختلاف قراءاتها لكثير من جوانب الدين الإسلامي برمته.
ثم جاءت خلافات عملية تدوين الأحاديث النبوية بعد أكثر من مئة وخمسين سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فطرحت إشكالات الإسناد والمتن والأحاديات والإسرائيليات ومدى أهميتها في موضوع الناسخ والمنسوخ ومدى تناغمها مع القرآن. ثم تفجرت الصراعات بشأن المدارس الفقهية وأفهامها المختلفة لكثير من التطبيقات الدينية، لينتهي بعضها بإغلاق باب الاجتهاد ويبقي بعضها الآخر باب الاجتهاد مفتوحًا.
تلك كانت أمثلة فقط؛ ذلك أن عدد الإشكاليات الخلافية كان كبيرًا وهو مسجل في مجلدات مختلف هي الأخرى حول نزاهتها، خصوصًا بعد أن أصبح الموضوع الديني أداة لخدمة الخلافات والطموحات السياسية التي لم تهدأ حتى يومنا هذا.
في عصرنا الحالي تواجه مجتمعات العرب والمسلمين كثيرًا من الإشكاليات، بعضها كتتمة لذلك التاريخ الهائج بالأحداث والخلافات والصراعات المذهبية، وبعضها الآخر كمستجدات عَمِلَ الكارهون لدين الإسلام على إذكائها ونشرها، وبقصد أو بدون قصد وقع بعض الجهلة والمجانين من المسلمين في حبائلها وألاعيبها.
فما زالت معنا الخلافات حول الاستفادة من شتى علوم العصر لقراءة وفهم القرآن الكريم من أجل مواجهة مستجدات عصرنا وتعقيدات حضارته، وما زالت معنا المشاحنات حول مراجع السنة النبوية من مثل صحيحي البخاري ومسلم، وما زال الكثيرون لا يريدون أن يتعاملوا مع مدارس الفقه الإسلامي كحصيلة اجتهادات بشرية من عصور سابقة، وبالتالي تحتاج إلى مراجعات جديدة تأخذ في الحسبان الخبرات والظروف والعلوم المستجدة.
هذا بالنسبة للشريعة. أما موضوع تطبيق الحدود فإن الخلافات أشد وأعقد. فالكتابات ومحطات الإذاعة والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي تموج بنقاشات لا تنتهي حول الحلال والحرام وحد السرقة والزنا والردة وشرب الخمر وسماع الموسيقا، وغيرها مما لا حصر له ولا عد.
وأما موضوعات السياسة وسلطات الحكم، وبخاصةٍ موضوعا الشورى والديمقراطية وموضوع ولاية الفقيه، فإن الانقسامات من حولها لا تعد ولا تحصى. ويبقى موضوع التقريب بين المذاهب الإسلامية متأرجحًا بين صعود وهبوط ومتداخلًا مع هذا الصراع السياسي أو ذاك.
تلك هي فقط أمثلة على بعض إشكاليات الساحة الدينية الإسلامية التي تفاقمت وتعقدت مؤخرًا بصعود ما يعرف بتنظيمات العنف والإرهاب الجهادي التكفيري الإسلامي وما تفعله باسم الإسلام، زورًا وبهتانًا، من ممارسات تتناقض كليًّا مع دين الحق والقسط والميزان والرحمة الإسلامي، ولكن تجد لها الأتباع في أوساط شباب وشابات الأمتين العربية والإسلامية.
ولما كان الدين الإسلامي هو روح الثقافة العربية وأكبر المتفاعلين مع كل جوانبها فإن الحديث عن التجديد في فهم الإسلام وتطبيقاته هو مدخل أساسي لتجديد الثقافة العربية برمتها حتى نحقق أولًا قطيعة ثقافية مع كل ما هو خرافي ولا عقلاني، ولا إنساني، ولا أخلاقي قيمي، وخصوصًا ما هو مناهض لحقوق العباد الإنسانية الكبرى وكرامة الأفراد. وسيساعد على الانتقال إلى ذلك تأكيد أصول الدين على ما سماها المرحوم الأستاذ محمد عابد الجابري من حقوق الإنسان بإطلاق في الإسلام التي تشمل «الحق في الحياة، والحق في التمتع بالطيبات، والحق في حرية الاعتقاد، والحق في المعرفة، والحق في الاختلاف، والحق في الشورى، والحق في المساواة، والحق في العدل».

دور المدرسة
من أجل أن تقوم المدرسة بدور فاعل في عملية إصلاح وتجديد الفكر الديني، وذلك من خلال التجديد الدوري لمناهج تعليم الدين، هناك خطوات مجتمعية يجب أن تسبق ذلك:
فأولًا، هناك ضرورة للانتقال من الاعتماد على جهود فردية مبعثرة ومتباعدة لإرجاع الحيوية للفكر الإسلامي ولجعله صالحًا للتفاعل الندي مع حضارة العصر وواقع العرب والمسلمين الحالي. فعبر قرنين من محاولات الإصلاح الفكري وممارسته ظلت تلك الجهود محصورة بالزمان والمكان والتأثير، وبالتالي لم تخلق تيارًا مجتمعيًّا حاضنًا وحاميًا لها.
وثانيًا، ستحتاج تلك الجهود ألا تكتفي بالاعتماد فقط على أدوات ومناهج الفقه الشهيرة. هناك حاجة أيضًا لاستعمال شتى الحقول المعرفية، الطبيعية منها والإنسانية والاجتماعية، لإجراء ذلك التجديد. ولأننا في عصر التخصصات والمتخصصين سيكون من المنطقي أن تؤسس مؤسسات أهلية تعنى ببناء مدرسة فكرية فقهية إسلامية جديدة من خلال عمل مشترك من قبل علماء الدين وشتى علماء الحقول المعرفية الأخرى.
وثالثًا، ستركز تلك المدرسة أولًا على تنقية الفقه والفكر الإسلامي مما علق بهما من أكاذيب وخرافات وتداخلات سياسية وطائفية وتعصبات غير عقلانية، بل تتعارض مع روح الإسلام السمحة الميسرة المتجددة عبر العصور.
في مثل هكذا أجواء من قبول ودعم للتجديد، ومن إبعاد لهيمنة الماضي على الحاضر، ومن ممارسة للعقلانية وللأسئلة الموضوعية المتوازنة لفهم الدين نصًّا وروحًا وسلوكًا، ومن تنقية تبعد إقحام شعارات البدعة والكفر والردة وغيرها من شعارات التزمت والعسر، سيكون من السهل على المدرسة تعليم الدين من خلال التسامح العقلاني، واليسر في الاختلاف، واستعمال أدوات النقد الموضوعي والتحليل العلمي، والفهم، بدلًا من التلقين والحفظ بلا استيعاب وتفاعل، والتركيز على المقاصد الكبرى بدلًا من الجزئيات والفرعيات، والابتعاد الكلي من كل ما قد يقود إلى المشاعر الطائفية والتزمت المذهبي، والتشديد على القيم الأخلاقية والروحية المفصلية من مثل العدالة وتساوي البشر وكرامتهم وأخوتهم وتراحمهم وسلوكياتهم الاجتماعية السوية.
عند ذاك سيكون تعليم القرآن والسنة النبوية مصدري إنارة وسلام داخلي وسمو إنساني وتطهير نفسي وارتكان إلى الرحمة الإلهية. وسيصب كل ذلك في تجديد ثقافي شامل يجعله مدخلًا لتنمية إنسانية مستديمة عادلة.

علي محمد فخرو – كاتب بحريني

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here