عربي ودولي

إبراهيم العنقري.. مستشار الفهد ورجل الملفات الثقيلة

المصدر

كان الفجرُ لا يزال يختبر صبرَ الضوء، حين خرج فتى نحيلُ القامة، واسعُ الطموح، إلى ساحةٍ اسمُها الوطن. في بيئةٍ تُعلِّم أبناءها أن أكبر المناصب خدمةُ الناس، تشكّلت ملامحُ إبراهيم العنقري؛ انحيازٌ للواجب، وطباعُ إداريٍّ لا يهوى الضجيج بقدر ما يحبُّ سماع وقع التنفيذ.

ذلك الفتى الذي تربّى على يدِ دولةٍ فتية، فهم باكراً «مفتاح شخصيته»: أن الإدارة ليست توقيعاً على ورق، بل توقيعٌ على حياةِ الناس اليومية: طريقٌ يُشق، وخدمةٌ تُتاح، ومرفقٌ يُدار كأنه بيتُك.

كبرَ إبراهيم، وكبرت معه الملفات. من مقعدٍ إلى آخر، كان يمشي «بهدوءٍ صاخب»: قليلُ الكلام، كثيرُ الأثر. يفتح نافذة على الواقع، ثم يُغلق باباً على التراخي. وحين تُسائلُه الأرقامُ عن الجدوى، يُجيبها بلسان الشواهد لا العبارات.

وُلد إبراهيم بن عبدالله العنقري في شقراء سنة 1347هـ/‏‏1929، ونشأ على قساوة البدايات ويُتمٍ مبكّر صَقَل طبعه: قليلُ الكلام، دقيقُ المواعيد، شديدُ الحسِّ بما يتعلّق بحقوق الناس. وحين حمل حقائبه إلى مكة ثم القاهرة، كان الأدبُ بوّابته الأولى إلى الفهم والتنظيم: «المسامرات الأدبية» في مكة صاغت لسانه، والجامعة المصرية صقلت فكره؛ هناك تعرّف إلى طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي وزكي نجيب محمود وإبراهيم أنيس، فخرج بخليطٍ نادر: إدارةٌ بعقلٍ نظامي ولسانٍ عربيٍّ مبين.

من مكتب المعارف.. تأسيس طريقة العمل

عاد الشابُّ من القاهرة يحمل شهادته وحُلم الخدمة، فوجد نفسه في قلب القرار التعليمي مساعداً ثم مديراً لمكتب وزير المعارف الأمير فهد بن عبدالعزيز (الملك لاحقاً). كانت الوزارة يومها تُبنى وهي تمشي: مدارس تنبت، ومناهج تُراجع، ومعلمون يُستقدمون من أصقاعٍ شتّى. هنا ظهرت «الطريقة العنقرية»: لا قرار بلا ميزانية، ولا برنامج بلا جدول زمني، ولا خطاب بلا لغة واضحة. أعاد تنظيم مجاري العمل بين القطاعات، وتابع المباني والمناهج والميزانيات، وحوّل الجهد من محاولات فردية إلى سيرٍ مؤسسي يعرف التخطيط والمتابعة والمحاسبة. تلك المدرسة الإدارية سيحملها معه أينما ذهب.

إلى الخارجية.. صناعةُ البروتوكول على سجادة المراسم

بعد أن اشتدّ عودُه الإداري، انتقل إلى وزارة الخارجية مديراً للمراسم. لم يكن البروتوكول عنده زينة احتفالات، بل لغةَ دولةٍ تسافر قبل وفودها. رتّب استقبال الزيارات ومساراتها ومخاطباتها، ووضع نسقاً يضمن الهيبة والإنجاز معاً. ومن وراء الممرات المفروشة كان يتعلم الإيقاع الدولي الذي سيحتاجه لاحقاً في الإعلام والداخلية والحدود. وشارك في وفود دولية ممثلاً للمملكة مثل اجتماعات هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، ثم عمل مستشاراً في السفارة السعودية بواشنطن، وأكمل دراسته في اللغة الإنجليزية في جامعة كولومبيا في نيويورك ودرس العلاقات الإنسانية في جامعة فلوريدا.

قلْب الحكومة.. وكالةُ وزارة الداخلية

حين تولّى وكالة وزارة الداخلية في أوائل الثمانينيات الهجرية، كان الجهاز يضمُّ شؤون المناطق والحقوق والبلديات، وتمرّ البلاد بمرحلةٍ حسّاسة أمناً وفكراً. اشتغل وكأن الليل لا وجود له: اجتماعات صباحاً ومسحٌ ميدانيٌّ مساءً، و«بابٌ مفتوح» يبدأ قبل الفجر ولا يُغلق حتى يعبر آخر صاحب معاملة. واجه التنظيمات المتطرّفة بالدراسة والحزم؛ يطلب المعلومة أولاً ثم يختار الإجراء الذي يجمع صرامة القانون وإنسانية التطبيق. لم يكن يعجبه الضجيج، لكنه كان يوقن أن الأمنَ خدمةٌ عامّة مثلها مثل المياه والإنارة: تُقاد بالأرقام والأنظمة لا بالانفعال. وكان ذا رؤية في مواجهة التيارات الفكرية وما يتبعها من تشكُّل التنظيمات السرية المعادية وهي تقوم على أن المعالجة الأمنية مهمة وضرورة إلا أنه كان يرى ضرورة البحث في الأسباب الفكرية خلف انتشار هذه الأفكار.

وزيراً للإعلام.. من «أداة» إلى «مؤسَّسة»

في أوائل رمضان 1390هـ، صدر الأمر الملكي بتعيين العنقري وزيراً للإعلام. دخل الوزارة وفي ذهنه مبدأٌ بسيطٌ عميق: «الدولة تُخاطب مواطنيها والعالم بسياسةٍ لا بردّ فعل». أسّس وكالة الأنباء السعودية (واس) كجهازٍ مستقلٍّ محترف يروي قصة بلاده بلسانها، وأطلق إذاعة القرآن الكريم بثّاً دائماً يرفع المصحف إلى صدارة الأثير، وقاد قيام «منظمة إذاعات الدول الإسلامية» ورأس اجتماعها الأول في جدة؛ ربط الأثير الإسلامي بمشاريع تدريبٍ وإنتاجٍ وتشبيكٍ مهني. وفي التلفزيون مضى بخطة تطويرٍ تقنية وبرامجية، أبرم اتفاقات تدريب، ووسّع البث، وجعل مواسمَ كالحج نافذة للعالم تُنقل بمهارة وتوثيق. ومع وفود العالم كان يقدّم «خطاباً سعودياً» مهنياً لا اعتذارياً: شروحٌ للسياسة النفطية، ومرافقةٌ إعلامية لزيارات القيادة، ورسائل لا تُكابر ولا تُساوم.

العمل والشؤون الاجتماعية.. حمايةٌ بالتمكين لا بالإعانة

عند انتقاله إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (1395هـ) صاغ سياسة وطنية بثلاثة أعمدة: رؤيةٌ ومبادئٌ وتنظيم، ثم تخطيطٌ وتنفيذ، فتنميةٌ مجتمعية تشرك الناس لا تتصدّق عليهم. توسّع «الضمان الاجتماعي» وأعيدت هيكلته ورفعت معاشاته، وكثّفت مكاتبه ولجانه، واستُحدثت برامج للرعاية والطفولة والأمومة وكفالة أسر السجناء. وفي «التأمينات الاجتماعية» اتخذ القرار الحاسم بتطبيق النظام على العاملين السعوديين في القطاع الأهلي؛ وُلدت بذلك مؤسسةٌ حديثةٌ تحسب المستقبل وتدير المخاطر. وفي الموازاة أسّس مع زملائه «المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني» لتصبح الذراع التي ترفد سوق العمل بمهاراتٍ وطنية. لم يعد «الأمن الاجتماعي» مجرّد تحويلاتٍ شهرية؛ أصبح نتيجة للتدريب والإدماج وفرص العمل.

الوزير البلدي.. مدينةٌ بنظام وحقٍّ للإنسان

وحين تولّى وزارة الشؤون البلدية والقروية في مطلع عهد الملك فهد، كانت المملكة تعبر إلى عصر المدن الكبرى. أعطى للتنمية الحضرية عقلاً: «نظام النطاق العمراني» الذي أوقف التمدّد العشوائي، وحدّد اتجاهات التوسّع على أساس احتياجات السكان وخدماتهم. شدّد على النظافة والبيئة والتخطيط والطرق والجسور وشبكات المياه والكهرباء، وربط الريف بالمدينة في منظومةٍ واحدة. كان موعده موعداً لا يُخلف: من لا يحضر الاجتماع في وقته لا مكان له على الطاولة. ولأنه يعتقد أن النزاهة سياسةٌ عامة، فقد كافأ مهندساً بلغ عن محاولة رشوة بمكافأةٍ كبيرة؛ رسالةٌ علنية بأن «الاستقامة» منهجَ وزارة.

بابه ظلّ مفتوحاً للمواطن قبل الموظف، يدخل صاحب المعاملة فيشرح قضيته أمامه، فيتّخذ القرار في مجلسه بعد مقارنة الأوراق والأنظمة، لا بعد جولاتٍ مُنهِكة بين الممرات. يخرج الناس بشعورٍ بأن الدولة تراهم وتسمعهم.

مستشار الملك.. خرائط الحدود ولُغة الأنظمة

أغلق العنقري ملف الوزارات ليفتح ملفّاً أدقّ؛ مستشار خاص للملك فهد. هنا اشتغل بميزانٍ حساس: حدودٌ مشتركةٌ وتاريخٌ طويل ومصالح متشابكة. فاوض لسنواتٍ في ملفات اليمن وقطر وعُمان والإمارات؛ يقرأ التاريخ والخرائط، ويزن الكلمات بواقعيةٍ تحفظ السيادة وتؤمّن حسن الجوار. مذكّرات تفاهم، لجان مشتركة، ومعاهدات نهائية ستُقفل لاحقاً خطوطاً شائكة عمرها عقود، وتفتح أخرى للتعاون.

وفي الداخل، كان واحداً من اللجنة العليا التي صاغت ثلاثة أنظمة مفصلية في عهد الملك فهد: «النظام الأساسي للحكم»، و«نظام مجلس الشورى»، و«نظام المناطق». لم يكن فقيهاً دستورياً ولا قاضياً؛ لكنه كان رجلَ إدارةٍ يعرف كيف تتحول المبادئ إلى لوائحَ قابلة للتطبيق، وكيف تُكتب النصوص بلغةٍ عربية أنيقة مختصرة، بعيدةٍ عن الحشو وثرثرة التعاميم.

ملامحُ رجل الدولة

هذا رجلٌ لا يحتمل الفوضى ولا يحبُّ الاستعراض. يقدّر الوقت ويحتكم إلى الوثيقة، القرار عنده لا يولد من مزاج، بل من ورقةِ ميزانيةٍ وخطةٍ ومسؤولية. يدرّب ويفوّض ويحاسب، ويؤمن أن الكفاءة تُصنع بالتعليم المستمرّ؛ لذلك دفع بإنشاء المعاهد، وشجّع الابتعاث القصير للموظفين، وأمر بعقد ورشٍ دائمة، وكتب ملاحظاته بيده على مشاريع اللوائح، يصحّح اللغة قبل المضمون؛ لأن اللسان عنده مرآةُ العقل.

كان شديد الرحمة في التنفيذ الصارم، لا يتراخى في حقّ الدولة، لكنه يفتح نافذة للضعيف ليشرح. وإذا استبانت له الحقيقة، حكم؛ وإن التبس الأمر، أعاده إلى لجنةٍ أو خبير. وحين كان يزور مشروعاً أو بلدية أو إدارة، لا يخرج منها بالتقاط الصور، بل بإقرارٍ تنفيذيٍّ يوقّعه في المكان ذاته.

وداع المعالي

في يناير 2008، أطبق الشيخ إبراهيم العنقري دفتر أيامه في جنيف. رحل كما عاش، بهدوءٍ لا ضجيج فيه. غير أن بصمته بقيت في كل مكان مرّ عليه، في مدرسةٍ تأسّست وفق خطةٍ لا هوى، وفي نشرةٍ رسميةٍ كُتبت بلغةٍ وازنة، وفي نظامٍ للدولة سطّر روحه المؤسسية، وفي مدينةٍ كبحت فوضى تمدّدها، وفي حدودٍ استقرت بعد طول قلق.

ليست سيرته حشدَ مناصب؛ إنها طريقة. طريقةُ رجلٍ يعمل بضمير، يؤمن أن الخدمة العامة مِهنةٌ لها أدبُها، وأن أجمل ما يتركه المسؤول بعد رحيله، مؤسّسةٌ تعملُ وحدَها.

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here