أيها المتحرش أنت لست قبيلتك
التحرش الجنسي بكافة أشكاله وأماكن حدوث عمله هو فعل غير أخلاقي بإجماع العقلاء، ويستحق فرض قانون يلزم فيه المتحرش مهما كان عمره وجنسه بالعقاب الذي يتناسب مع جنحته غير الأخلاقية وغير الإنسانية. موافقة مجلس الشورى على إضافة عقوبة التشهير إلى العقوبات المنصوصة في نظام مكافحة جريمة التحرش الصادر قبل عدة أشهر أثار جلبة من الآراء الاجتماعية بين مؤيدين ومعترضين حول جدوى عقوبة التشهير. وللمعترضين على التشهير بالمجرم في قضايا التحرش مبررات كثيرة منها أن التشهير بالمجرم سيمتد أثره لعائلته وقبيلته ويؤثر على المحيطين به، كما يؤثر على «نفسية» المتحرش وقدرته على مواجهة المجتمع لاحقا. بعيدا عن تسطيح المبررات ومقارنة تأثر المجرم والضحية أيهما أولى بالانتباه والاهتمام، سأتناول في هذا المقال من وجهة نظر شخصية وفهم خاص أكثر سببين للاعتراض على عقوبة التشهير وهما: «أن التشهير يتعدى المجرم المشهر به ويصل لعائلته وقبيلته» و«أن التحرش ردة فعل لسبب رآه في المتحرش به» ونفترض في الأغلب أن ضحايا التحرش من الأحداث والنساء لشيوع هذا الأمر أكثر خاصة في المجتمعات العربية حسب التقارير والإحصائيات الرسمية.
«التشهير يتعدى المجرم المشهر به ويصل لعائلته وقبيلته، وهذا فيه ظلم وتعد على هؤلاء»؛ ينطلق المعترضون على التشهير لهذا السبب من سيطرة قديمة للنظام الأبوي في المجتمع العربي، وهو نظام قديم انطلق من أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية للتجمع البشري، ثم بدأ يفقدها بالتدريج مع عوامل الحضارة والتطور إلا أنه ما زال يوجد حتى اللحظة في مجتمعنا السعودي الذي تغلب عليه القبلية القائمة على الأبوية، فالسلطة والرأي والولاء تتجه بشكل أولي للقبيلة -كبرت أو صغرت في تشكلها وتفرعها العشائري والعائلي- وفيها تذوب شخصية الفرد وتنتهي خصوصيته التي لو نزع إليها في آرائه أو شكل حياته واستقلاله لاعتبر منبوذا لدى القبيلة لا أهمية له وربما محاربا بالفعل أو القول.
كانت هذه الأبوية تكتسب أهميتها وقيمتها حينما كان الاقتصاد يعتمد على العمل الجماعي الذي يتأثر بزيادة أو نقص عدد الأفراد، ويعتمد على الأفراد الذكور أكثر بسبب القوة الجسدية التي تساهم في العمل والبناء، لذا أصبحت قيمة الفرد الذكر لدى القبيلة أهم من الأنثى التي تتهيأ من عمر صغير لإنجاب المزيد من الرجال والعمل لأجلهم والعناية بهم والخضوع لسلطتهم حتى ضعفت شخصيتها حد التلاشي في الحضور القبلي. فحضور المرأة في المجتمع القبلي مغيب كحضور الفرد المستقل الذي يكتسب قوته ومكانته من هذا الأبوية التي تتحدث نيابة عنه وتعلي شأنه وتمنحه مكانة اجتماعية وقيمة قد لا يكون يستحقها، وأصبحت في الوقت الحاضر مع تلاشي العوامل الاقتصادية والسياسية القديمة التي كانت تحكم قبائل الجزيرة العربية تقف موقف المدافع عن هذا الفرد والمبرر لأخطائه، وحشد كل قواها المادية والعشائرية للحفاظ على اللقب الذي يحمله هذا الفرد في آخر اسمه، والذي يعني الجماعة أكثر من الشخص. تتضح هذه الصورة بجلاء في ظاهرة حملات دفع دية القاتل من أبناء القبيلة التي تصل لمبالغ مليونية غير منطقية. فالقبيلة تحرص على «الفزعة» وحماية هذا الفرد الذي تنظر له بأبوية لأنه يمثلها ويحمل اسمها، فتنحى أي اعتبارات منطقية أو إنسانية أو قانونية لأجل نجاة هذا الاسم/الفرد/ الذكر. بينما لو كان الأمر يحدث بالمقابل لامرأة من هذه القبيلة لن تجد النصرة والفزعة والحماية التي تُمنح للرجال لأسباب تعود للتفكير الأبوي السابق الذكر. وحينما يُدان المتحرش ويكون من ضمن عقابه «التشهير» فهو في عرف النظام الأبوي ليس تشهيرا به لوحده إنما هو تشهير بكافة القبيلة يجب أن تتصدى له، ليس حفاظا على الفرد بصفته الشخصية ولا اعتبار لقيم العقاب والتهذيب وحماية الآخرين، بل لأجل اسم القبيلة وحسب.
التعامل المنقوص الذي تحصل عليه المرأة في ظل النظام الأبوي المتمثل في القبيلة والعشائر والأسر الممتدة رغم شيوعه في العالم بمختلف عصوره وانحساره من كثير التجمعات البشرية، إلا أنه تمكن من البقاء في المجتمعات العربية لاكتسابه قوة تشريعية استمدت بتحريف النصوص الدينية والسياقات التاريخية، بما يخدم هذا النظام ويقوي قيمه ويضعف مكانة المرأة وربما يحتقرها ويدينها، وهذا يأخذنا للسبب الآخر الذي يقدمه المعترضون على التشهير بالمتحرش كعقوبة قانونية.
«التحرش ردة فعل لسبب رآه في المتحرش به»؛ انطلاقا من المبادئ والقيم التي يؤمن بها المتحرش أو من يدافع هذه الجريمة، نجد أن هذا التبرير هو الأكثر شيوعا لدى المجرم بنفسه قبل الآخرين. فهو -ومجتمعه- يعطي نفسه الحق في التحرش الجسدي أو اللفظي على الضحية لأنها – وغالبا ما تكون امرأة- كانت سببا في انفلات تحكمه بنفسه ونزواته التي يرضيها بتجاوزه، السبب هذا يتخذ عدة صور كأن يكون في اللبس أو الهيئة أو المكان أو الوقت. ويأخذ المجرم هذا التبرير لنفسه وجرمه استنادا على أعراف أو أفكار، يجد لها صفة شرعية تقوي حجته وتؤيد ضمنيا جرمه من المجتمع الذي يشاركه جلد الضحية باللوم أنها السبب في التحرش إما للبسها أو عملها المختلط أو توقيت ومكان خروجها وغيره. ما يحدث هنا هو أحد مستويات ما يعرف بعملية الانفصال الأخلاقي الذي تحدث عنها عالم النفس ألبرت باندورا، فهو يبرر سلوكه العدائي بتقليل القيمة الإنسانية للضحية وإلقاء اللوم عليها. تبرير عمل المتحرش ومحاولة حمايته من التشهير يقع بمجمله تحت عملية الانفصال الأخلاقي؛ ففيه نجد أن المتحرش يتباهى غالبا بسلوكه الإجرامي في أوساطه ويعتبرها بطولة تثبت شجاعته وذكوريته قد يجد معها ثناء ومديحا، ويمنح عمله الإجرامي بعدا منطقيا في نظره بإزاحة المسؤولية عنه إلى الضحية بوصفها سببا فيما يقوم به المتحرشون، وغالبا لأنه يعلم أن هناك قوة قبلية وعائلية تقف خلفه وتحميه بحمايتها لاسمها ولإيمانه معه بمبرراته، فهو يقوم بجرم يؤمن بأن مسؤوليته لا تقع عليه وحده وأن العقاب لو حدث لن يكون إلا رمزا لا يردع من التكرار، لأنه بالمقام الأول لا يؤمن بإنسانية الضحية ولا حقها في الحصول على العدالة.
حينما يؤمن المجتمع بفردانية كل شخص فيه ومسؤوليته التامة عن تصرفاته كافة وعواقبها سيتوقف حتما عن وضع تبريرات تحمي مجرمي التحرش من التشهير بهم، فأنت أيها الفرد لست القبيلة، وأنت إن كنت ذكرا أو أنثى ينبغي أن تكون كما أنت، أما التشريع الديني والقانوني والعقلي فرد مسؤول عن تصرفاتك الجيدة أو السيئة يجب أن تكون كذلك في قيم القبيلة ما دامت ستبقى. قوة القانون تستمد بعدها من العدالة وحقوق الإنسان في الحصول عليها، وليس من القيم البالية التي تقوم على أنظمة لا تهتم بالفردانية وتذوب الشخصية الذاتية في اعتباراتها كالنظام الأبوي.
على كل سيدة في هذا الوطن أن تؤمن بأن هناك قوانين تحميها وتقف بجانبها دون اعتبار جندري أو جهوي، وأن تثق بقدرة النظام القانوني والأمني بحمايتها في كل وقت وأي مكان وبأي شكل، لأنها تشكل كالرجل هذا الكيان وتقدم له ما يقدم وتحصل بالضرورة على ما يحصل دون خوف أو تبرير أو رجاء.
Next Page >