أمي والكارثة الكونية
رغم المسافة الشاسعة بين مجرتنا ومجرة الكوكب (تونكل 800) إلا أن انفجاره أحدث خللاً في النظام الكوني برمته حتى وصلت تبعاته إلينا على كوكب الأرض. فمع اختفاء هذا الكوكب الضخم الذي يكبر الشمس مئة مرة، اختفت جاذبيته التي كانت تشكل نواة التوازن بين كواكب مجرته. فبدأت هذه الكواكب تتجاذب باضطراد منحرفةً عن مساراتها، ثم راحت تصطدم ببعضها ككرات البلياردو، ثم انفرط عقدها وراحت تهوي إلى الأسفل كحبات المسبحة.
الأمر لم يقتصر على هذه المجرة العملاقة التي تحوي عدداً لا يُحصى من الكواكب والنجوم، بل إنها جذبت في سقوطها مجرةً مجاورة لها، ثم شكلت المجرتان قوةً جاذبة جرفت معها مجرةً ثالثة، ثم رابعة، وخامسة، حتى وصل الدور إلى مجرتنا الصغيرة التي انهارت كقشة متساقطةً نحو الأسفل. الكون برمته راح يسقط كتلةً واحدة على إثر ذلك. لقد كان يشبه إلى حدٍ كبير دفقة ماء ألقيت من مكانٍ شاهق لتهوي بسرعةٍ قصوى حيث لا قاع ينتهي إليه هذا السقوط.
على الأرض شعرنا باختلافٍ في التوقيت مع هذه الكارثة. فالأرض راحت تدور على محورها وعلى الشمس بسرعةٍ مخيفة أصابتنا بالدوار في الأيام الأولى ولكننا سرعان ما اعتدنا عليه. ونتيجةً لهذا الدوران المتسارع، فإن اليوم تقلص وأصبحت الشمس تمرق في السماء كرمية. لم يكن يستغرق وجودها في السماء سوى لحظات منذ شروقها حتى غروبها قبل أن تختفي ليلاً للحظاتٍ أخرى ثم تعود للظهور بسرعة!
تسارعت فصول السنة هي الأخرى، فأصبح الفصل الواحد يمر في ساعة واحدة! وبالطبع أنا أعني ساعتنا القديمة على وجه التقريب. فخلال ساعة، ستشعر بالبرد ويهطل المطر فتدرك أنك في الشتاء. ثم في ساعة تالية، ستورق الأشجار وتتفتح الزهور فتعرف أنك في الربيع. وفي ساعةٍ ثالثة، سترتفع الحرارة وينضج البطيخ والشمام والعنب فتعلم أنه فصل الصيف. ثم ستتساقط أوراق الأشجار في الساعة الرابعة لتنتهي دورة الفصول بنهاية الخريف. تمر سنة كاملة بتقلبات فصولها الأربعة خلال أربع ساعات ثم تبدأ سنة جديدة بدورة فصول جديدة خلال الساعات الأربع القادمة!
حدث لغط في العالم على إثر ذلك. دب الخوف وتفاقم القلق واضطرب الناس والحكومات. الدول المتحاربة أوقفت اقتتالها واهتمت بالحدث الكوني، واكتسب الفيزيائيون وعلماء الفلك أهميةً استثنائية وشعبيةً جارفة وبات الناس يقدمونهم في المجالس ويستمعون لهم باهتمام عندما يتحدثون. حتى أولئك الذين لم يجدوا لهم أعمالاً في السابق لشح الوظائف في هذين التخصصين، أصبحوا فلاسفة ومحللين يتقاضون أجوراً مرتفعة لقاء ظهورهم في برامج حوارية على التلفاز. شاهدتُ أحدهم اليوم على القناة الرسمية مرتدياً ربطة عنق وملابس نظيفة ويتحدث باستعلاء، وسبق لي رؤيته قبل الحادثة الكونية بأيام في الحارة المجاورة يتشاجر مع القطط التي سرقت عشاءه من براميل النفايات.
الحكومات والمنظمات حاولت استغلال الحدث لصالحها، فألقى المتدينون باللائمة على الفسقة، وأنصار البيئة على الحكومات والأفراد بلا استثناء، والسياسيون تبادلوا الاتهامات فيما بينهم. منهم من تجرأ بتحديد دولة معينة تعادي دولته رغم أن تلك الدولة تعيش معنا على نفس الكوكب. برر هؤلاء ادعاءهم بأن أعداءهم جهزوا مراكب فضائية ضخمة ستنقلهم إلى كوكب جديد يعيشون فيه ويتشفون منه بالنظر إلى كوكبنا وهو يموت، أو ينفجر، أو أياً كان ما سيحصل له.
بعض العلماء حاولوا تهدئة الناس، قالوا إن لا شيء مهم سيحدث، وبخلاف تقلص الوقت، فإن الحياة ستستمر على حالها. بل إنهم رجحوا أن يعود الكون إلى توقيته السابق ما إن تجد الكواكب التائهة مدارات جديدة تنتظم فيها. آخرون سببوا ذعراً، قالوا إن عصر كوكبنا انتهى، وأن كوكباً جديداً سيظهر عليه أناس جدد ونحن سنتحول إلى كائناتٍ فضائية. فريق ثالث رجح أن الوقت لن يظل هكذا، بل سيزداد تسارعه كلما ازددنا في السقوط حتى نصل إلى سرعة الضوء حيث يكون الوقت فيها (صفر)، وآن ذاك ستتوقف الكواكب في أماكنها وسنتوقف نحن أيضاً عن الحركة، وربما نموت أو لا نموت وقد نبقى متجمدين هكذا ننظر إلى آخر شيء كنا ننظر إليه ولا نستطيع أن نفعل شيئاً. ويا لها من فكرة مرعبة! أن نبقى متجمدين في حياة متجمدة! سيكون الموت عندها نهايةً مريحةً وسعيدةً بدلاً عن هذه الحياة البغيضة.
وعلى الرغم من هذه الكارثة وتغيراتها المخيفة، إلا أن الأمر في حقيقته لم يكن يهدد طبيعتنا البشرية أو حياتنا اليومية، فنحن ننام عندما نشعر بالنعاس، ونأكل عندما نجوع منتظرين نهايةً لهذا السقوط.
بالنسبة لأبي، كان الحدث اختباراً لجودة الساعات التي لم تصمد أمام التسارع الكوني. أخرج جميع ساعاته القديمة فوجدها قد تعطلت وانفرطت زنبركاتها وهي تحاول اللحاق بدورة الوقت الجديدة. حتى ساعاته الرقمية لم تصمد هي الأخرى أمام هذا التسارع الرهيب، وفي كل مرة يضع بطاريةً جديدة في إحدى الساعات، يراها تومض لمرةٍ واحدة ثم تخلد شاشتها إلى ظلمة أبدية.
أما أمي فيمكنني القول إنها الوحيدة التي كانت تواجه مشكلةً فعلية مع ما يحدث في الكون، فمنذ بداية الكارثة وهي لا تستطيع معرفة الوقت الذي توقظنا فيه للذهاب إلى المدرسة.
خالد سعيد الداموك – السعودية

